
المحتويات
مقدمة
ابن صاحب الصلاة، من المؤرخين الأندلسيين الذين لا نتوفر إلا على النزر اليسير من المعلومات حول حياتهم، فلم ترد تفاصيل مهمة عن حياته ومراحلها المختلفة في كتب التراجم سواء في عصره أو في العصور المتأخرة. وقد عاش في فترة الدولة الموحدية، وخاصة في فترة عبد المؤمن وأبو يعقوب يوسف، الأمر الذي أتاح له نسج علاقات وثيقة مع كثير من رجالات الدولة، بل وأصبح واحدا من خدام ووزراء الدولة إلى آخر حياته. وقد كان وفاؤه للدولة الموحدية دافعا قويا له بأن حاول التأريخ لها ولانجازاتها وإنجازات أمرائها مستفيدا مما توفر له من معلومات جمعها عبر علاقاته وأسفاره الكثيرة داخل الدولة، وهو ما ظهر في أشهر كتبه: “المن بالإمامة” والذي ألفه للتأريخ لتاريخ المغرب والأندلس في عصر الدولة الموحدية، وقد اختار له عنوان: “كتاب تاريخ المن بالإمامة على المستضعفين بأن جعلهم الله أئمة وأن جعلهم الوارثين، وظهور الإمام المهدي بالموحدين على الملثمين، وما في مساق ذلك من خلافة الإمام الخليفة أمير المؤمنين وأخير الخلفاء الراشدين”. وهو كتاب خصب حول الدولة الموحدية، ووثيقة تاريخية تؤرخ لتلك الدولة من موقع المعاينة والمشاهدة المباشرة.
النسب ولادته ونشأته
ابن صاحب الصلاة؛ هو عبد الملك بن أحمد بن إبراهيم الباجي، ويكنى بأبي مروان وأبو محمد، ومن اسمه يتبين أنه ينتسب إلى مدينة باجة أصل أسرته بالأندلس. ولا تتوفر معطيات وافية ومفصلة حول ظروف نشأة ابن صاحب الصلاة، وذلك باستثناء بعض الإشارات اليتيمة الواردة حول أصوله وألقابه. ويفترض المؤرخ عبد الهادي التازي، أن تكون ولادته حوالي 537هـ (1142م)، وذلك استنادا إلى بعض المعطيات الواردة في كتاب “المن بالإمامة”.[1] واستوطن مدينة إشبيلية، وفيها روى عن أبي بكر بن أبي هارون، وأبي عبد الله بن عميرة، وأبي علي بن الأشيري.[2]
أما مدلول لقب “صاحب الصلاة” فيشير إلى إحدى الوظائف التي عرفتها الدولة المغربية في المغرب والأندلس كصاحب الوضوء، وصاحب السجادة، وصاحب الصلاة. وهذا الأخير يعني الذي يؤم بالناس صلواتهم تعديلا للقب الإمام المعهود حتى لا يشتبه بالإمام الحاكم. وقد سمي باسم ابن صاحب الصلاة لكونه ينحدر من أسرة لامعة في الأندلس ممن حملوا هذا اللقب.[3]
ابن صاحب الصلاة.. في خدمة الموحدين
كان ابن صاحب الصلاة وفيا وفاء قويا للموحدين وسلاطينهم ولدولتهم، بل ولمذهبهم من حيث “الإعتماد على الأصول من الكتاب والسنة ونبذ كتب الفروع، ولم يخف عنا حفظه لمدونات المهدي، وروايته لكتاب أعز ما يطلب”.[4]
أما الوظائف التي شغلها ابن صاحب الصلاة، فبدأها بمنصب الكتابة بقرطبة، وقد كان في عداد الكتاب المرموقين بها، ولما قدم عليها أبو يعقوب بن عبد المؤمن وأبو سعيد بن عبد المؤمن الموحديين يوم الثاني عشر من شوال 557هـ (24 شتنبر 1162م) كان ضمن وفد كتاب اشبيلية الذين خرجوا للتبرك بمقدمهما. وفي سنة 560هـ كان ضمن موكب أبي سعيد بن عبد المؤمن الموحدي والي قرطبة لينزل جبل طارق حيث اجتمع أبي سعيد بأخيه أبي حفص بن عبد المؤمن بعد الفتور الذي أصاب علاقة الرجلين بعد وفاة الخليفة عبد المؤمن بن علي الموحدي، وقد تقدم ضمن الشعراء الذين هنأوا أبي حفص بقطعة شعرية من نظمه.[5]
وقد تيسرت الأمور لابن صاحب الصلاة لزيارة عدوة المغرب، وانطلاقا من مدينة سبتة توجهوا إلى فاس حيث كانت له دون ريب اتصالات ببعض الشيوخ في المدينة، ثم اتجه نحو مدينة مراكش حيث تم اللقاء بين الخليفة أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، والأخوين أبي حفص وأبي سعيد خارج المدينة في فاتح رجب من سنة 560هـ/14 مايو 1165م. وقد أقام لدى الأمير أبي يعقوب ردحا من الزمن، فتيسر له أن يلتقي ويستفيد من بعض كبار العلماء الذين يعملون في البلاط الموحدي من أمثال الفقيه الخطيب أبي الحسن علي بن الإشبيلي، الذي سمع عليه قراء عقيدة التوحيد (المرشدة)، والعقيدة المباركة المسماة بالطهارة، وكتاب “أعز ما يطلب” وكلها لمؤسس الدولة المهدي بن تومرت. [6]
واستمر تواجد ابن صاحب الصلاة مقيما بمراكش بعد أن غادرها كل من أبي حفص وأبي سعيد إلى الأندلس أوائل رمضان 560هـ/12 يونيو 1165م، وكان ضمن نخبة كتاب وأشياخ القصر الموحدي، كما شهد معركة “الجلاب” التي وقعت يوم 31 أكتوبر 1165م/23 ذي الحجة 560هـ، والتي انتهت بانتصار الموحدين ضد هلال ابن مردنيش.[7]
وفي سنة 564هـ/1169م ظهر مرة أخرى في الأندلس بغرناطة التي أسندت ولايتها إلى الشيخ محمد بن أبي إبراهيم، وهو من أصدقاء ابن صاحب الصلاة، وكان هذا الأخير من الجلساء المقربين للشيخ. وبعد مدة ظهر ابن صاحب الصلاة بمدينة مراكش أوائل عام 566هـ/1170م، وأغلب الظن أنه جاء لتهنئة الخليفة بالشفاء، حيث امتثل بين يدي الأمير أبي يعقوب يوم 19 ربيع الأول 566هـ/ 30 نونبر 1170م. وفي بداية مارس 1171م/رجب 566هـ، كان ضمن ركب أب يعقوب الذي توجه نحو الأندلس، وقد استمر في صحبة الخليفة الموحدي هناك وحضر تنقلاته واستقبالاته واحتفالاته وتدشينه للمباني التاريخية باشبيلية.[8]
وقد ظل ملازما للخليفة، بل وغدا واحدا من خدام الخليفة المرموقين في البلاط الموحدي، وهكذا استمرت رحلته وملازمته لركاب الموحدين سواء في الأندلس أو في المغرب، و”اكتسب منزلة سامية لا تقل عن مكانة الطبيب أبي بكر بن زهر، والفيلسوف أبي الوليد بن رشد فلقد زار بمعيتهما -عند الإياب من حملة السوس ورفقة الخليفة- زاروا قبر المهدي، وقبر عبد المؤمن بتينملل ثم يرجع ابن صاحب الصلاة إلى اشبيلية ليستقبل الخليفة عندما برز هذا الأخير إليها يوم الجمعة 13 صفر سنة 580هـ (26 مايو 1184)”.[9]
وفاته وآثاره
وقد استمرت صلة ابن صاحب الصلاة ببلاط الموحدين حتى بعد استشهاد أبي يعقوب، وتولي أبي يوسف يعقوب المنصور الذي أشركه في الخطبة مع أبي الحكم عبد الرحمن ابن حاج بالجامع الأعظم في اشبيلية عام 594هـ/1198م. وهذا يعني أن العمر امتد به إلى ما بعد عام 594هـ/1198م، أي أن وفاته كانت أواخر القرن السادس الهجري.[10]
وبالإضافة إلى كتابه المشهور “المن بالإمامة”، فإن بعض المصادر ذكرت كتابا آخر من تأليفه وهو كتاب “ثورة المريدين”، وهو الكتاب الذي تناول ثورة طائفة دينية تسمى “المريدين” وهم أتباع أبي العباس أحمد بن قسي، والذين ثاروا ضد الموحدين بالأندلس. وكما ضاع السفر الأول والثالث من كتاب “المن بالإمامة”، فقد ضاع أيضا كتاب “ثورة المريدين”.
وبالنظر إلى أهمية ما ورد في كتاب “المن بالإمامة” فقد كان مرجعا لجل المؤرخين المتقدمين منهم والمتأخرين، كما هو الشأن عند ابن القطان في “نظم الجمان”، وابن عذاري في “البيان المغرب”، وابن الآبار، وابن عبد الملك في “الذيل والتكملة”، وابن أبي زرع في “الأنيس المطرب”، والجزنائي في “زهرة الآس”، وابن الخطيب في “الإحاطة”، وابن خلدون في “العبر”، والمقري في “نفح الطيب”.. وغيرهم.[11]
وإلى جانب إنتاجاته النثرية كان ابن صاحب الصلاة أيضا من شعراء تلك الفترة، وإن كان لا يعد من الشعراء المبرزين.
المراجع
[1] ابن صاحب الصلاة عبد الملك، المن بالإمامة.. تاريخ بلاد المغرب والأندلس في عهد الموحدين (أنظر تقديم المحقق)، تحقيق الدكتور عبد الهادي التازي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 3، 1987، ص 10.[2] المراكشي ابن عبد الملك، الذيل والتكملة، ج 5، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، ط1، 1973، ص 32.
[3] ابن صاحب الصلاة عبد الملك، المن بالإمامة (أنظر تقديم المحقق)، مرجع سابق، ص 7-9./ محمد حجاج الطويل، معلمة المغرب، ج16، 2002، ص 5464-5465.
[4] ابن صاحب الصلاة عبد الملك، المن بالإمامة (أنظر تقديم المحقق)، مرجع سابق، ص 20.
[5] ابن صاحب الصلاة عبد الملك، المن بالإمامة (أنظر تقديم المحقق)، مرجع سابق، ص 11.
[6] ابن صاحب الصلاة عبد الملك، المن بالإمامة (أنظر تقديم المحقق)، مرجع سابق، ص 11-12
[7] ابن صاحب الصلاة عبد الملك، المن بالإمامة (أنظر تقديم المحقق)، مرجع سابق، ص 12-13.
[8] ابن صاحب الصلاة عبد الملك، المن بالإمامة (أنظر تقديم المحقق)، مرجع سابق، ص 15.
[9] ابن صاحب الصلاة عبد الملك، المن بالإمامة (أنظر تقديم المحقق)، مرجع سابق، ص 17.
[10] ابن صاحب الصلاة عبد الملك، المن بالإمامة (أنظر تقديم المحقق)، مرجع سابق، ص 19.
[11] ابن صاحب الصلاة عبد الملك، المن بالإمامة (أنظر تقديم المحقق)، مرجع سابق، ص 37-38.