توطئة

يُمثِّل السلوك السياسي للعلامة إدريس الكتاني (1924-2018)، حالة متميزة لمسار عالم دين انخرط منذ السنوات الأولى لاستقلال المغرب بفعالية دينية وسياسية وأكاديمية في المجال العمومي، إذ يُعَدّ من المؤسسين الأوائل لرابطة علماء المغرب، وأول رئيس لفرعها الإقليمي بمدينتي الرباط وسلا، كما كان عضوا بالمكتب السياسي لحزب الشورى والاستقلال، وبعد اعتزاله للعمل الحزبي في الستينيات من القرن العشرين بسبب ما اعتبره انحرافا للحزب عن القيم الإسلامية؛ تفرَّغ للعمل الفكري والثقافي من خلال ترؤسه لنادي الفكر الإسلامي بالرباط منذ تأسيسه سنة 1980.

إجادة تدريسية وبَراعة تأليفية

اشتهر إدريس الكتاني على المستوى الأكاديمي بتدريسه للعلوم الاجتماعية والحضارة الإسلامية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، وبإصداراته المتنوِّعة المهتمة أساسا بالفكر الإسلامي، والدفاع عن اللغة العربية، ونقد النفوذ اللغوي والاقتصادي الفرنكوفوني بالمغرب، ومن أبرز مؤلفاته نذكر:

  • “المغرب المسلم في مواجهة اللادينية”، الصادر سنة 1958.
  • إستراتيجية الدفاع عن الأمن الإسلامي من خلال أربعين حديثا نبويا“، منشورات نادي الفكر الإسلامي سنة 1997.
  • “التفسير الإسلامي لسقوط العالم العربي المعاصر”، منشورات نادي الفكر الإسلامي سنة 1999.
  • “ثمانون عاما من الحرب الفرنكوفونية ضد الإسلام واللغة العربية”، منشورات نادي الفكر الإسلامي سنة 2000.

كما سبق للرجل الموسوعي أن أعاد طبع ونشر رسالة والده الشيخ محمد بن جعفر الكتاني للسلطان عبد العزيز المؤرخة سنة 1908م، والموسومة ب”نصيحة أهل الإسلام بما يدفع عنهم داء الكفرة اللئام”، وعلى الرغم من مرضه وتقدُّمه في السن؛ أصدر سنة 2009 خمسة إصدارات وثائقية تضمنت في حيز هامّ منها أرشيفه الشخصي ومذكرات من حياته الحافلة بالعطاء، وقد عكسَت هذه المذكرات من عناوينها طبيعة المعارك الفكرية والإعلامية التي خاضها طيلةمسارهالحركي كعالم للشريعة، من قبيل قضايا: تعريب التعليم والتطرف اللاديني والازدواجية اللغوية في المغرب، ورسالة استقالته من قيادة رابطة علماء المغرب، ورفضه لحضور وزير الأوقاف والشؤون الدينية الكويتية في تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بزعامة الشيخ يوسف القرضاوي.

مواقفه وفتاواه الشّرعية

تميَّز السلوك السياسي لإدريس الكتاني بوفائه لمبدأ استقلالية العالِم عن السلطة السياسية، وتجلى ذلك بقوة في حيويته في تنسيق البيانات الصادرة عن مجموعة العلماء الأحرار في بداية عقد التسعينيات إبّان حرب الخليج، والعدوان على العراق سنة 1991. ففي هذه القضية وقّع إدريس الكتاني بمعية العلماء: عبد الله بن الصديق وعبد العزيز بن الصديق وعبد اللطيف جسوس وأحمد الريسوني ومحمد المنوني وغيرهم على بيان حقيقة بعنوان “موقف الإسلام من الاستعانة بالمشركين في قتال المسلمين، والغارة الصّليبية العالمية الجديدة على الأمة الإسلامية”، وهو بتعبير الكتاني نفسه في كتابه “حرب الخليج، نهاية السقوط العربي” أول ردّ إسلامي صريح صدر في كل العالم الإسلامي ضد فتاوى فقهاء السلطة في السعودية ومصر، بجواز الاستعانة بالنصارى واليهود في قتال المسلمين”.

وفي سنة 2001 تزعَّم الراحل الكتاني ثلة من العلماء والفاعلين الدينيين في اصدار الفتوى الشهيرة “حول عدم جواز دخول المغرب في حِلْف دعت إليه أمريكا ضد الإرهاب، وبحرمة صلاة أي مسلم في كنيسة نصرانية أو بيعة يهودية بممارسة طقوسها الدينية”، في معارضة فقهية لحضور وفد رسمي يمثل الدّولة المغربية في القداس الذي نظمته كاتدرائية سان بيير بالرباط يوم 16 شتنبر سنة2001 تضامنا مع ضحايا أحداث 11 شتنبر بالولايات المتحدة الأمريكية. وقد كشفت هذه الفتوى السياسية الموجّهَة للدولة وجهازها الديني عن التأثير الكبير للمواقف السياسية للعلماء على النظام السياسي، وهو ما تبدّى في الرد الشخصي القوي للملك محمد السادس على فتوى الكتاني ورفاقه ضمن حواره مع مجلة Paris Match الفرنسية في 31 أكتوبر 2001؛ “إذ اعتبر العلماء والخطباء الموقعين لا يمثلون إلا أنفسهم، وأنه شخصيا هو رئيس المجلس العلمي الأعلى”. كما كانت هذه الفتوى وغيرها من الفتاوى السياسية المحرجة للدّولة سببا رئيسيا في إعلان الملك محمد السادس عن إحداث الهيئة العلمية المكلَّفة بالفتوى المرتبطة بالشأن العام في أبريل سنة 2004.

وبرهنت فتوى الكتاني باعتبارها فعلا سياسيا – بغض النظر عن الاختلاف مع بعض مضامينها وأفكارها- عن استمرارية حركية العالم المغربي في المجال العام، وعن تطلعه لنموذج العالم الناصح المتطلع للخروج من ضيق العمل الفردي إلى سعة الفعل الجماعي، وقد شكل نموذج إدريس الكتاني بانتظام إحدى تجلياته البارزة في المغرب المعاصر منذ تجربة ما عُرف إعلاميا بحركة العلماء الأحرار في تسعينيات القرن الماضي.

الدِّينامية الثقافية والوطنية

عُدّ العلّامَة إدريس الكتاني قبل أن يقعده المرض عن التفاعل مع الشأن العام، من العلماء القلائل الذين حازوا رصيدا حركيا مشهودا في الحياة السياسية الوطنية، إذ كان دوما في طليعة العلماء المشاركين في المسيرات والتظاهرات الوطنية المتضامنة مع الشعوب العربية والإسلامية، كما أنه بقي مواظبا إلى حدود سنة 2011 على الكتابة في الصحف حول القضايا الوطنية المستجدّة، وبالأخص المتعلقة بالشأن الديني، فكان من السباقين للمطالبة بتأسيس المجلس الأعلى لمراقبة مالية الأوقاف قبل إحداثه سنة 2010، كما عُرف من بين العلماء المغاربة بتحفظه عن استعمال مصطلح “الحقل الديني” في توصيف “مجال الدعوة”، إذ اعتبر مفهوم الحقل الديني في مقال له بجريدة التجديد؛ بأنه من المفاهيم الغريبة عن دين الإسلام، والتي تسهم بالتقليل من شأنه.

اهتم الدكتور إدريس الكتاني بشكل لافت بالمسألة التعليمية فحاضَرَ بشأنها في الجامعات والمنتديات، وحرّر على عادته الدائمة في مقاربة القضايا المركزية، مذكرات ودراسات في جذور المعضلة التعليمية، وفي اقتراح أُسُس النهوض بالتعليم العمومي. فغداة الإعلان عن مشروع “الميثاق الوطني للتربية والتكوين” المنبثق عن اللجة الملكية بقيادة المستشار الملكي الراحل عبد العزيز مزيان بلفقيه سنة 1999؛ أصدَر الكتاني مذكرة نقدية للمشروع في ثلاثين صفحة عنونها بلغته النقدية الصريحة التي لا تعرف المهادنة أو المجاملة  “مذكرة تشريحية لجسْم ميثاق التربية والتكوين” وذكر بأن المذكرة “تشرح علميا وتاريخيا وإسلاميا أسباب رفض المشروع”، وَعَزَا في مدخلها سبب رفض الميثاق، بكون أعضاء اللجنة غير منتخبين من هيئات الخبراء والعلماء والتنظيمات السياسية والنقابية، ثم حدَّد في ثلاث نقط ما اعتبره “الأدلة القاطعة على إدانة المشروع ورفضه جملة وتفصيلا” وهي:

  • الدليل الأول: المشروع يُلغي تحت ضغط استعماري واستبدادي جميع المبادئ الوطنية، خاصة منها: “تعميم التعليم وتوحيده ومغربته”، التي أجمع عليها الشعب المغربي منذ استقلال المغرب؛
  • الدليل الثاني: المشروع يتحدى بوقاحة نصوص الدستور التي تؤكد بأن المملكة المغربية دولة إسلامية، ولغتها الرسمية هي اللغة العربية؛
  • الدليل الثالث: المشروع خُطِّط بعناية منذ إلغاء “مشروع اللجنة الحكومية المختصة بالتعليم” المؤلفة من 330 عضوا سنة 1995 لتحقيق الأهداف التالية: تكريس الفرنكفونية الاستعمارية العلمانية- تمزيق وحدة الشعب المغربي اللغوية والفكرية والدينية والثقافية – عزل المغرب عن عالمه العربي والإسلامي، وإدماجه كدولة هجينة بدون هوية في سوق “نخاسة الحضارة العالمية”.

عاش العلامة د. إدريس الكتاني طيلة مساره الحركي الحيوي منافحا عن القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المحورية للأمة الإسلامية، وتفرَّد عن غيره من العلماء القدامى والمعاصرين باجتهاد متميز في تفسير مسألة قيام بني إسرائيل بفسادها الثاني في الأرض، المذكور في قوله تعالى من سورة الإسراء:“وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً”، فأعلن اجتهاده المتميز هذا في محاضرة له بالأردن خلال ندوة دولية حول ذكرى الإسراء والمعراج أقيمت بالأردن في 23يونيو1979، ونشر المحاضرة كاملة في كتابه “بنو إسرائيل في عصر الانحطاط العربي” وملخَّصها كما كتب بنفسه: “وحيث أننا عشنا ولا نزال نعيش مشاهد إفساد بني إسرائيل الأول في فلسطين والشرق الأوسط منذ سنة 1948، فالقرآن الكريم أخبرنا بأن علو بني إسرائيل في الأرض سيستمر على أن يقوموا بإفسادهم الثاني، حيث سينتصر فيه المسلمون ويدخلون المسجد الأقصى مظفرين، كما دخلوه أول مرة في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إنها الحرب الحاسمة والفاصلة المتوقعة بين المسلمين واليهود”.

وينمّ اجتهاد العلامة الكتاني الذي خالف فيه تفسير جمهور المفسرين: على كون الإفساد الأول والثاني لبني إسرائيل حصل قبل الإسلام، عن شخصيته العلمية المجتهدة وعن تملكه لناصية الاجتهاد التي تغيب عن الكثير من علمائنا، إما خوفا من السلطة السياسية أو مجاراة للسلطة الاجتماعية التي تمثلها عوائد الناس وموروثاتهم.

وفاته

بعد مسيرة عامرة بالنّفع للقُراء والجامعات والبحث العلمي والمجتمع والأمّة، توفيَ العلّامة الكبير إدريس الكتّاني مساء الجمعة 09 رمضان 1439هـ الموافق ل 25 ماي 2018 بمدينة الرباط عن عمر ناهَز مائة سنةٍ، ودفِن بمقابر حيّ الرياض في العاصمة الرباط، فرحمه الله وأجزل له الثواب.