المحتويات
تاريخ البطاطا (البطاطس) بين أوربا والمغرب
تشير بلقيس شرارة في كتابها “الطباخ ودوره في حضارة الإنسان ” إلى أن البطاطا مرت بنفس مراحل الرفض التي مرت فيها الطماطم، كنبات جديد. فهي لم تُتَقبل في أوروبا بالرغم من أنها زرعت في أعالي جبال البيرو منذ 1500 سنة، وقد أطلق عليها في انجلترا “تفاح الارض”، وقد كان أول من وصف البطاطا هم الإسبان سنة 1537 م.[1] وقد أخرت هذه النظرة السلبية قبولها في أوربا، حيث رفضها بعضهم لأنه لم يأتي ذكرها في الإنجيل فقالوا: “إن أراد الله أن نستعمل البطاطا كطعام لذكرها في الإنجيل”، كما عارض رجال الدين والمتدينون زراعتها، إذ اعتقد بعضهم أنها الفاكهة المحرمة التي أكلها أول المخلوقين.
وبالرغم من مرور السنين لم يتغير رأي الناس كثيرا في البطاطس، لذا فقد قدم العالم الفرنسي أونطوان بارمنتييه (Antoine Augustin Parmentier) في إحدى الولائم باقة ورد البطاطا إلى الملك لويس 16 (توفي أواخر القرن 18)، كما قام بإعداد عدة ولائم عشاء قدم فيها البطاطا بأشكال مختلفة، لكن أهم دعاية قام بها بارمنتييه عندما زرع أرضا بالبطاطا وأحاطها بسياج لحمايتها، فتعجب الناس وعندما نضجت قاموا بسرقتها؛ وبذلك قبلت البطاطا كطعام، وشكر لويس 16 بارمتييه قائلا: “ستشكرك فرنسا ذات يوم لأنك وجدت خبزا للفقراء” .
وإذا كانت البطاطا قد احتاجت لما يقرب من قرنين من الزمان لتصبح جزء من المطبخ الاوربي؛ وذلك لاعتبارات دينية كما سبق الإشارة إلى ذلك، حيث أنها لم تصبح جزء من هذا المطبخ إلا أواخر القرن 18م وبداية القرن 19م، فإنها بالمقابل لم تكن بحاجة لوقت طويل لتصبح جزء من المائدة المغربية، وذلك بالنظر إلى أن الإسلام يعتبر التحريم أمرا توقيفيا؛ أي لا بد من ورود نص بالحريم وإلا فإن إعمال قاعدة “الأصل في الأشياء الإباحة” يكون هو المرجع المعتمد .
وقد واجهتنا صعوبات عدة في الإجابة عن سؤال: متى عرف المغاربة البطاطا؟، وذلك راجع إلى أن منهج المؤرخين المغاربة القدامى كان الغالب فيه التأريخ للأحداث السياسية مع إغفال الأحداث الاجتماعية، فما بالك الإشارة إلى أمر من قبيل حدث دخول احد أصناف الخضروات إلى المغرب. لكن مع انفتاح المؤرخين المغاربة المعاصرين على منهج مدرسة الحوليات في التأريخ؛ مكننا ذلك من الوقوف على رسالة من محتسب الرباط السيد عبد الخالق فرج إلى السلطان المولى الحسن الأول (توفي سنة 1894م)، وهي مراسلة عبارة عن مخطوط أوردها الدكتور عبد العزيز الخمليشي في كتابه “مدينة الرباط في القرن التاسع عشر 1818-1912”. حيث أن هذا المحتسب أورد أنواع الخضراوات التي كانت توجه إلى القصر الملكي بالرباط، وقد كانت البطاطس بأنواعها المختلفة جزء من تلك القائمة[2]. مما يقدم دليلا على أن المغاربة قد تعرفوا على البطاطا خلال القرن 19 أو قبل ذلك، أي قبل الحماية الفرنسية نتيجة احتكاك المغرب الدائم والمستمر مع الأوروبيين.
كما أن محمد الصفار، كاتب سفير المولى عبد الرحمان بن هشام إلى البلاط الفرنسي الحاج عبد القادر أشعشاع ما بين سنتي 1845م و 1846م، قد أشار في مذكراته إلى أن البطاطا عند الفرنسيين، والتي وصفها بالبطاطا الرومية، قلما يخلو منها طعام، يستعملونها، حسب محمد الصفار، وحدها ومع غيرها[3].
أكلة “معقودة” وأكلات الشارع المغربي
تعتبر “المعقودة” اليوم من أكلات الشارع، إذ ناذرا ما يقوم المغاربة بإعدادها في البيوت. وتعتبر أكلة الفقراء والفئات الشعبية بامتياز، وذلك لرخص ثمنها وقيمتها الغذائية العالية. فلا عجب أن نشاهد عشرات الفقراء وغيرهم من مختلف الفئات الشعبية المتحلقين حول عربات معدي وبائعي “المعقودة “.
وطعام الشارع في المدن المغربية ليس وليد اليوم، فقد عرف المغرب هذه الظاهرة منذ القدم. فالرحالة الحسن الوزان في كتابه “وصف افريقيا” قدما وصفا دقيقا لمحلات الأكل بمدينة فاس قبل 500 سنة من اليوم. يقول الحسن الوزان: “ويشرع في الصباح ببيع اللحم المشوي، ويباع كل يوم الفطائر والخرفان المشوية أكثر من مائتي مثقال، لأن هناك خمسة عشر دكانا لا تشتغل طوال اليوم إلا بذلك. ويباع كذلك اللحم والسمك المقليان ونوع آخر من خبز خفيف مصنوع من أشرطة أغلظ، وتباع الأكارع عادة مطبوخة. ومن عادة الفلاحين أن يتناولوا في نفس الدكاكين هذه الأطعمة الغليظة في الصباح الباكر قبل أن ينصرفوا إلى أشغالهم في الحقول”[4]. ولا يستبعد أن تكون هناك أكلات رخيصة أخرى يتم إعدادها في هذه الدكاكين المعدة لإطعام هؤلاء الفلاحين من ساكنة مدينة فاس، ولكن يبقى السؤال: هل عرف المغاربة طرق إعداد أكلات وأطباق تشبه طريقة إعداد المعقودة، مما سهل استبدال تلك المكونات وإدخال البطاطا محلها؟.
المعقودة كما نعرفها اليوم
بالرجوع إلى معاجم اللغة وكتب الطَّبيخ؛ فإن الشيء المعقود هو الشيء الذي غُلظ أو جُمد بالتبريد أو التسخين. أما كتاب “فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان”، وهو كتاب عن الطبخ من العصر المريني، فقد أشار فيه صاحبه إلى أن معقود السكر يتم إعداده بعد وضع السكر على النار لصنع العسل، وهو العسل الذي يضاف إليه اللوز ويترك حتى يبرد، لتصنع منه أقراص[5] .وخلاصة ذلك، أن المعقود أو المعقودة هو وصف يوصف به الشيء الذي يتم تغيير مادته وإعادة تشكيله من جديد، وهو الذي يحصل مع البطاطا، حيث تتحول من حالة تكون فيها صلبة إلى حالة تصبح معها إعادة تشكيلها بعد طهيها في الماء أكثر سهولة .
وأما طريقة إعداد المعقودة والتي يعرفها الجميع اليوم؛ فتتم عبر سلق البطاطس وتقشيرها ثم إعادة تشكيلها كأقراص، ثم وضعها في سائل خاتر مكون أساسا من الدقيق والماء والبيض أو الزنجبيل. وهناك من يضيف القزبر (الكزبرة) والمعدنوس (البقدنوس)، ليتم بعد ذلك قليها في الزيت. وهي طريقة ليست وليدة اليوم، بل عرفها المغاربة قبل ألف سنة من اليوم .فبالرجوع إلى كتاب “أنواع الصيدلة في أنواع ألوان الأطعمة”؛ وهو كتاب عن الطبخ من العصر الموحدي (القرن 12م)، نجد أن هذه الطريقة استعملت في إعداد طبق الباذنجان المعفر. فبعد أن يتم غليه في الماء ثم إخراجه من مائه يترك ليمصل ويجف قليلا، ثم يؤخذ من دقيق الدرمك، ويضرب بيض وفلفل وكزبرة وزعفران، ويسير من مري نقيع، فإذا صار مثل حسو خاثر غمس فيه الباذنجان، وقُلي في مقلاة حامية، ثم يمر ثم يغمس، ويعاد ثاتية وثالثة[6] .
خاتمة
لقد مكن دخول البطاطس إلى المغرب المغاربة من أحد أنواع الخضروات ذات الإنتاجية الأكبر، والسهلة التخزين، مما يجعلها متوفرة طوال السنة، وذلك بخلاف الباذنجان؛ وهو ما سيدفع المغاربة لاستبدال الباذنجان بالبطاطا، لتصبح بالتالي أكلة المعقودة مكونا أساسيا في مطبخ المغاربة ومن مطبخ الشارع أساسا. حيث أن سهولة الحصول عليها طوال السنة وسهولة تحضيرها، يجعل منها أكلة سريعة التحضير، تمكن العابرين من اختصار زمن الانتظار والحصول على طعام رخيص. كما أن البائعين سيسعون لتحسين مذاقها، وذلك عبر غمسها في ذلك الحسو الخاثر الذي أشرنا إليه سابقا، ثم قليها في الزيت بعد ذلك. كما أن الأمر مرتبط أساسا بما يسميه الأستاذ محمد حبيدة في كتابه “المغرب النباتي: القرون15-18، التاريخ والبيولوجيا” بالاندماج المطبخي، حيث يعتبر الأستاذ حبيدة أن مسلسل أكل الأطعمة وتطويعها واستجابتها للذوق العام يتم من خلال الاعتياد على بعض الأكلات، فتندمج بكيفية تدريجية في النسق المطبخي الاعتيادي. وبهذا المفهوم تغيرت وظيفة بعض النباتات البرية من طعام قحطي إلى طعام اعتيادي. وذلك كما هو الشأن مع أوراق نبات الرجلة (البقولة) التي اكتسحت الأذواق، خاصة في المدن، حيث أضاف إليها الناس الزيتون والليمون الحامض، وأصبحت أكلا شهيا مع مرور الزمن حتى يوم الناس هذا[7].
المراجع
[1] شرارة بلقيس، الطبّاخ دوره في حضارة الإنسان، دار المدى، ط1، 2012.[2] خمليشي عبد العزيز، مدينة الرباط في القرن التاسع عشر 1818-1912: جوانب من الحياة الاجتماعية والاقتصادية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة رسائل وأطروحات، ط1، 2012.
[3] الصفار محمد، رحلة الصفار لإلى فرنسا 1845-1846، تحقيق سوزان ميللر، ترجمة بن الصغير خالد، دار السويدي للنشر والتوزيع، ط1، أبو ظبي، 2007.
[4] الوزان الحسن، وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي و محمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، ط2، بيروت، 1983.
[5] التجيبي إبن رزين، فضالة الخوان في طيبات الطعام والألوان، تحقيق محمد بن شقرون، دار الغرب الإسلامي،بيروت.
[6] مؤلف مجهول، أنواع الصيدلة في أنواع ألوان الأطعمة: الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين، تحقيق عبد الغني أبو العزم، مؤسسة الغني للنشر، 2010، ص 145.
[7] حبيدة محمد، المغرب النباتي: القرون15-18، التاريخ والبيولوجيا، منشورات ملتقى الطرق، 2018، الدار البيضاء.