
المحتويات
هو الشيخ الإمام، الفقيه العلامة، المحقق المشارك، العارف بالله، أبو العباس أحمد بن الحاج العياشي بن الحاج عبد الرحمن سكيرج الأنصاري الخزرجي الأندلسي المالكي مذهبا، التجاني مشربا، الفاسي أصلا، الطنجي عملا، السطاتي قضاء ومسكنا، المراكشي مدفنا..[1]
المولد والنشأة
ولد أحمد سكيرج في شهر ربيع الثاني عام 1295هـ-1877م في مقابلة وجه الداخل بـ«درب سيدي يدير»، بـ«حومة رأس التيالين» من مدينة فاس بدار الشرفاء الطاهريين. ونشأ في بيت علم وصلاح وتقوى، فأبوه: هو الفقيه الفاضل الحاج العياشي بن سيدي عبد الرحمن سكيرج، رجل قد ألمَّ بالعديد من العلوم والفنون، منها: التوحيد والفقه والميراث وفن الألغاز والبلاغة والعروض كما كان يجيد قرض الشعر.
بدأ المؤلف حياته العلمية على يد الفقيه محمد بن الهاشمي الكتامي، وهو عمدته في استظهار كتاب الله وتجويده، وبعد ذلك أخذ الفاتحة بالقراءات السبع، وكان ذلك عن سبعين شيخًا من خيرة أساتذة هذا العلم الجليل، منهم العلامة محمد بن عبد الله، الفاسي موطنًا، الشاوني أصلًا، وهو عمدته في هذه القراءة، وقد أجازه فيها بسنده.
والتحق بالقرويين سنة 1309هـ، وفيها اهتدى إلى الطريقة الصحيحة للعلم والتعلم. وقد اهتم العياشي سكيرج اهتماما بالغا بتراجم شيوخه الذين أخذ عنهم العلم والمعرفة منذ صباه، فاعتنى بجمع أخبارهم وأقوالهم، وذكر مقاماتهم وأحوالهم، مع ما يضاف إلى ذلك من مواعظهم الحميدة، ونصائحهم السديدة، وكتابه “قدم الرسوخ فيما لمؤلفه من الشيوخ” خير شاهد على هذا الاعتناء الكبير، ويعد من أهم تآليفه على الإطلاق، ترجم فيه لستة وستين شيخا من أساتذته الكبار، مع ذكر إجازاتهم له، والكثير منها بخطوطهم، (وهو مطبوع متداول: دراسة محمد الراضي كنون الحسني).
المسيرة العملية
توجه عام 1327هـ/1909م إلى مدينة طنجة فاشتغل بها مستخدمًا بدار النيابة، وذكر أنه وجد بمدينة طنجة أجواء مخالفة للأجواء التي كان يعيشها بـفاس؛ وذلك لاختلاف بعض العادات والتقاليد من جهة، ولغلبة الطابع الأوروبي على بعض أهلها من جهة ثانية. والسبب في استيطانه طنجة في هذه الفترة، هو كثرة الفتن التي كانت تعيشها فاس ونواحيها وقتذاك.
وفي عام 1325هـ/1907م استدعاه عبد الرحمن بن زيدان نقيب الشرفاء العلويين إلى مدينة مكناس، فأقام عنده أيامًا اجتمع فيها بالكثير من الأدباء والأفاضل، فألف في ذلك رحلته المسماة: «الرحلة الزيدانية»، وهي التي دون فيها أحداث الفترة التي قام بها من مسقط رأسه فاس إلى زيارة عبد الرحمن بن زيدان بمكناس، وهي أول رحلة من رحلاته التي دونها، وهي ذات طابع سياحي علمي فهرسي، (وهي كذلك مطبوعة متداولة: تحقيق محمد الراضي كنون الحسني وصدرت عن دار الأمان بالرباط).
وفي سنة 1329هـ/1911م سافر إلى مدينة وهران الجزائرية؛ تلبية لاستدعاء صديقه العلامة الحبيب بن عبد المالك، واجتمع بالعديد من رجال العلم والمعرفة والدين بها، وجمع أخبارها في كتابه «الرحلة الحبيبية الوهرانية الجامعة للطائف العرفانية»، (تحقيق العربي بوعمامة من جامعة مستغانم، وحمدادو بنعمر من جامعة وهران، الطبعة الأولى1438هـ-2014، لبنان، صدرت عن سلسلة التراث والدراسات المعاصرة-4-)، هذا ويقدم المؤلف فيها وصفا دقيقا عن مدينة وهران خلال زيارته لها، كما ذكر الذين لقيهم من التجار المغاربة، ومن أعيان الجزائر الذين قدم نبذا من حياتهم، وقد اهتم بذكر المباحثات العلمية المنوعة مع الذين اتصل بهم من المغاربة والجزائريين سواء في مدينة وهران أو في المدن الأخرى..
وفي عام 1334هـ/1916م توجه للحج، بعدما اختارته الحكومة الشريفة للنيابة عنها في تهنئة الملك حسين باستقلال الحجاز؛ وألف فيها كذلك كتابه: «الرحلة الحجازية»، ذكر فيه جميع الأحداث والمستجدات التي عاشها على رأس تلك البعثة الشريفة.
كما تولى مناصب قضائية مختلفة، منها ثلاث سنوات قاضيًا بمدينة وجدة ابتداء من سنة 1337هـ/1919م، وفي سنة 1340هـ/1922م عُين بمدينة الرباط عضوًا ثانيًا بالمحكمة العليا بالأعتاب الشريفة، وفي عام 1342هـ/1924م تم تعيينه على رأس القضاء بمدينة الجديدة، وفي سنة 1347هـ/1928م تولى القضاء بمدينة سطات إلى غاية وفاته.
رحلة تصوفه
ابتدأت علاقة العلامة سكيرج بالتصوف عامة وبالطريقة الأحمدية التجانية خاصة منذ العقد الأول من عمره، حيث كان يصحب جده -عبد الرحمن سكيرج- لصلاة المغرب وتأدية ذكر الوظيفة بالزاوية الكبرى بـفاس، وظل بعد ذلك يتردد على الزاوية مع والده الفقيه الحاج العياشي.. وهكذا نشأ في وسط صوفي، ما كان دافعًا قويًّا له للتمسك بالطريقة الأحمدية التجانية على يد العلامة المقدم محمد فتحا بن محمد بن عبد السلام كنون الإدريسي الحسني.. وظل يناظر ويجادل عنها حيثما حل وارتحل ضد المنكرين للطرق الصوفية في حلقات مساجد مدينة فاس.
مؤلفاته وآثاره العلمية
أما مؤلفاته فهي تشمل فنونا مختلفة من سيرة وحديث ولغة وتاريخ وتراجم، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
- ففي التصوف له: “كشف الحجاب عمن تلاقى مع التجاني من الأصحاب”، وذيله: “رفع النقاب بعد كشف الحجاب”، وكلاهما في ذكر متصوفة التجانية، و”تنوير الأفق في الطرق” و”مفتاح الفتوحات المكية” و”تنبيه الإخوان على أن الطريقة التجانية لا يلقنها إلا من له إذن صحيح..” و”تيجان الغواني في شرح جواهر المعاني” و”رفع النقاب” و”كشف الحجاب” و”النور الواضح في شرح صلاة الفاتح”.
- وفي التراجم والرحلات: “الرحلة الحبيبية الوهرانية” ذكر فيها أنه وصل إلى مستغانم وتلمسان وعاد إلى فاس وضمنها تراجم بعض من لقيهم، و”رياض السلوان في تراجم من اجتمعت بهم من الأعيان” قال ابن سودة: “ترجم فيه لنحو ألفي فاضل من أهل عصره”، و”الرحلة الحجازية” ذكر فيها جميع الأحداث والمستجدات التي عاشها على رأس تلك البعثة الشريفة.
- وفي الحديث: “شفاء الأحزان في حديث: الراحمون يرحمهم الرحمن”، و”ينبوع السلسل في بعض ما ورد في الحديث المسلسل”.
- وفي السيرة النبوية: “الذهب الخالص في محاذاة كبرى الخصائص” و”كمال الفرح والسرور بمولد مظهر النور” و”مورد الصفاء في محاذاة الشفاء”.
- وفي الفقه: “الفتح المبين في ختم المرشد المعين” و”مجموع النوازل الفقهية”.
- وفي المجال التربوي: “أسنى المطالب فيما يعتني به الطالب” و”الأنباء بنصح الأبناء”.
- وفي التاريخ: “الإمداد برجال الإسناد” و”جنة الجاني بتراجم بعض أصحاب الشيخ التجاني” و”الغنيمة الباردة بترجمة سيدنا الوالد مع سيدتنا الوالدة”.
- وفي الأدب واللغة: “الأجوبة المرضية عن الألغاز النحوية” و”الجوهر المنظوم في ختم مقدمة ابن آجروم” و”أمثال العامة” و”نيل الأرب في أدب العرب”.. هذا بالإضافة إلى بعض الرسائل والتقييدات المختلفة، قام بجمعها محمد الراضي كنون الحسني تحت مسمى: “رسائل العلامة القاضي الحاج أحمد سكيرج الأنصاري الخزرجي، وهو غني ومفيد للغاية.
تحليته
أَثنى على العلامة سكيرج مجموعةٌ من معاصريه من العلماء والأدباء والمفكرين، ومن ذلك: قول العلامة محمد الحجوجي في كتابه: “فتح الملك العلام بتراجم بعض علماء الطريقة التجانية الأعلام”: “هذا السيد شهرته بالعلم والأدب، وعدة فنون كالحساب، وليس عندنا من يتقن الجذور فيه مثله، كنار على علم، وأما مؤلفاته فحدث عن البحر ولا حرج، وإن شئت أن تقول لكثرتها هو سيوطي زمانه لما كنت مبالغًا، ومن أَنْفَس مؤلفاته: نظمه لشفا القاضي عياض، وكشف الحجاب، والكوكب الوهاج”.
وقال تلميذه العلامة محمد الحافظ التجاني المصري ضمن ترجمته: “ما رأيت من بارك الله له في حياته وزمنه كسيدي الحاج أحمد سكيرج، فإنه كان يرعى أموره الدنيوية والزراعية بنفسه، مع قيامه بالقضاء والاجتماعات الدينية، وإلقاء العظات التي يلين لها الصخر، والإصلاح بين الناس، والرد على الاستفتاءات التي كانت ترد عليه من أقطار العالم الإسلامي برسائل، كل واحدة منها تصلح أن تكون مؤلفًا مستقلًّا كافيًا في موضوعه”. وذكر ولده الأديب عبد الكريم سكيرج: “إن والدي العزيز مادح المصطفى، وحامل راية الدفاع عمن لمنهجه اقتفى، المؤلف النفَّاعة، طائر الصيت في الشرق والغرب، ولي نعمتي، سيدي الحاج أحمد سكيرج الأنصاري الخزرجي، رحمه الله”..
وفاته
قبل وفاته بثلاثة أيام، عاوده المرض واشتد عليه، فحمل فورًا إلى مراكش من أجل العلاج، حيث أُجريت له عملية جراحية توفي بعدها بقليل، وذلك يوم السبت 23 شعبان عام1363هـ الموافق سنة1944م. وكان يوم جنازته يومًا رهيبًا، اهتزت فيه المدينة، وحضر تشييع جنازته جم غفير من العلماء والفقهاء والأفاضل، ودفن بضريح العلامة القاضي عياض بن موسى اليحصبي.