
المحتويات
مقدمة
أبو الحسن علي الشاذلي؛ من أشهر متصوفة المغرب، وقطب من أقطاب التصوف في العالم الإسلامي، ومؤسس واحد من أهم الخطوط الصوفية، وهو أيضا رأس هذا الخط الصوفي، ويتعلق الأمر بالطريقة أو الطائفة الشاذلية، التي ما يزال أتباعها ومريديها وشيوخها ينتشرون في مناطق واسعة من العالم الإسلامي، حيث تشعبت عن الطريقة الشاذلية الأصلية فرق وطرق كثيرة. ورغم أن ولادة أبو الحسن الشاذلي كانت في المغرب، فإن معظم حياته قضاها في تونس ومصر. قال عنه صاحب “لطائف المنن” ابن عطاء الله السكندري (ت. 709هـ/1309م): “كان أبو الحسن… فصيح اللسان، عذب الكلام، غير متزمت في المأكل والمشرب، يحب الخيل ويقتنيها ويركبها ويرتدي الثياب الحسنة، وكان يقول: لا تسرف بترك الدنيا فتغشاك ظلمتها، أو تنحل أعضاؤك لها، فترجع لمعانقتها بعد الخروج منه”[1].
النسب والنشأة والنبوغ العلمي
هو تقي الدين أبو الحسن علي بن عبد الله بن عبد الجبار الغماري الشاذلي، وينتهي نسبه إلى علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء ابنة الرسول (ص) كما ذكر ابن عطاء الله السكندري في “لطائف المنن”[2]. ولد بقبيلة الأخماس ببلاد غمارة، فرقة بني زرويل، بمنطقة شمال المغرب عام 591هـ/1195م (وقيل أيضا 593هـ/1196م). ونشأ في قريته ببلاد غمارة، حيث حفظ القرآن الكريم وتلقى المبادئ الأولى لعلوم اللغة والشريعة. ثم ارتحل إلى مدينة فاس فدرس على كبار علمائها من أمثال محمد بن علي حرزهم. ومن أجل الاستزادة العلمية رحل مبكرا إلى تونس (إفريقية) وهناك قضى قسطا كبيرا من شبابه[3]. وبسبب انشغاله بتنمية الجوانب الروحية من شخصيته، فإن أبو الحسن الشاذلي كان حريصا على الاغتراف من ينابيع علوم عصره من علوم القرآن واللغة، وعلوم الحديث، والفقه وأصوله والأدب والمنطق، وآداب المناظرة… فأهله ذلك للنبوغ في حقول علمية مختلفة.
رحلته إلى التصوف
وفي تونس اتصل بعدد كبير من شيوخ التصوف الذين اتخذوا تونس مستقرا لهم: كأبي عبد الله بن حرازم، والشيخ محمد صالح بن بنصار، والشيخ أبي محمد المهدوي، والشيخ أبي سعيد الباجي. وقد تميزت البيئة الفكرية والصوفية في تلك الفترة في تونس بشيوع أفكار وتعاليم أبي مدين الغوث، فتأثر الشاذلي بذلك فوقع في حب التصوف، فتلقى بداية الطريقة على أبي عبد الله بن حرازم أحد تلامذة أبي مدين ولبس على يديه خرقة التصوف.[4]
ورغم الحركية التي تميز بها الجو الفكري والروحي لتونس، فإن أبو الحسن الشاذلي، قرر الانتقال إلى المشرق عام 620هـ/1223م لأداء فريضة الحج وزيارة الأرض المقدسة والروضة النبوية، ثم من أجل البحث عن الشيخ القطب، وإتمام تكوينه العلمي على يد علماء تلك الربوع. وكانت الإسكندرية أول محطة في رحلته، ثم القاهرة التي لقي بها استقبالا حارا، فبقي فيها زمنا ثم تابع طريقة إلى الديار المقدسة فأدى فريضة الحج، وذلك قبل أن يدخل مدينة بغداد بالعراق. وفي بغداد بحث عن القطب الصوفي، فقيل له: “أنت تبحث عن القطب في العراق وقد تركته في بلادك، يقصد الشيخ عبد السلام بن مشيش”[5]، كما التقى هناك بالشيخ أبي الفتح الواسطي الذي تأثر به كثيرا، وهو الذي وجهه إلى الشيخ عبد السلام بن مشيش العلمي.[6]
عاد الشاذلي إلى المغرب للالتقاء بالشيخ ابن مشيش العلمي بجبل العلم عام 622هـ/1225م، فلازم الشيخ مدة من الزمن، فاعتُبر ابن مشيش بذلك الأستاذ الأكبر للشاذلي في التصوف والسلوك. وتنفيذا لوصية وأمر أستاذه عبد السلام ابن مشيش العلمي عاد الشاذلي إلى تونس واستقر بقرية شاذلة قرب مدينة تونس، فنسب إليها، وكان خلال ذلك يلجأ إلى مغارة (المغارة الشاذلاية) بجبل زغوان للخلوة برفقة صاحبه أبي محمد عبد الله بن سلامة الحبيبي من أهل شاذلة، وذلك قصد التفرغ للعبادة والابتعاد عن كل أنواع الفتنة متأسيا في ذلك بأستاذه ابن مشيش العلمي[7].
بعد نزوله من معتكفه وعزلته بجبل زغوان دخل مدينة تونس فذاعت شهرته بين الناس وقصده كثير منهم وآمنوا بولايته وانتشرت تعاليمه بين الناس وكثر مريدوه وأتباعه من عامة الناس وخاصتهم، ومن هؤلاء الشيخ أبو الحسن علي ابن مخلوف الصقلي، وأبو عبد الله الصابوني، وأبو محمد عبد العزيز الزيتوني، وأبو عبد الله البجائي الخياط، وأبو عبد الله الجارحي[8]. وقد خلق له الأمر متاعب كثيرة مع قاضي قضاة الحفصيين أبو القاسم ابن البراء التنوخي (ت.672هـ/1279م) الذي سعى للإيقاع بالشاذلي لدى سلطان تونس أبي زكرياء الحفصي (ت.648هـ/1250م)، وكذا اتهامه للشاذلي بالزندقة والإلحاد والخروج على الدين. ونتيجة لتلك المتاعب والمضايقات الذي تعرض لها رحل الشاذلي عن تونس قاصدا أداء فريضة الحج مرة أخرى[9]. ورغم عودته مرة أخرى إلى تونس فإن مقامه بها لم يستمر إلا فترة يسيرة، والتقى خلالها بأبي العباس المرسي (ت.586هـ/1281م)، وذلك قبل أن يسافر مرة أخرى إلى الديار المصرية.
رحل الشاذلي مرة أخرى إلى الديار المصرية لتربية المريدين اعتمادا على رؤية رآها في منامه تحثه على ذلك. فاستقر بالإسكندرية في برج من أبراج السور أوقفه عليه سلطان مصر، ومعه عدد كبير من الفقراء والمريدين. وقد تزوج في الإسكندرية ورزق عددا من الأبناء وهم: شهاب الدين احمد، وأبو عبد الله محمد شرف الدين، وأبو الحسن علي، وزينب وعريفة الخير[10]. وقد حضر دروسه في مصر عدد غير يسير من أكابر علماء العالم الإسلامي آنذاك، والذين تلقوا منه بشكل مباشر: كابن عصفور، ومحيي الدين ابن جماعة، وأمير العلماء العز ابن عبد السلام، وابن دقيق العيد، وعبد العظيم المنذري، وابن الصلاح، وابن الحاجب، ومحي الدين بن سراقة، والشيخ يسين تلميذ محيي الدين بن عربي، ومكين الدين الأسمر، وأبي العباس المرسي، وأبي علي السماط وأبي العزائم ماضي… [11]. فقد كانت إقامته في مصر فترة استقرار مادي ومعنوي، وكانت فترة خصبة من حيث الدعوة، ومن حيث تربية الرجال.[12]
وفي شهر شوال من سنة 656هـ/1258 عزم على السفر من جديد لأداء مناسك الحج، فوافته المنية بصحراء عيذاب، بين قنا والقصير، وأثناء احتضاره جمع أصحابه ونصحهم بمداومة تلاوة حزب البحر، بعدما استخلف عليهم تلميذه أبو العباس المرسي،[13] حيث خاطبهم بقوله: “إذا مت فعليكم بأبي العباس المرسي: فإنه الخليفة من بعدي، وسيكون له بينكم مقام عظيم، وهو باب من أبواب الله سبحانه وتعالى”.[14]
أبو الحسن الشاذلي.. التجربة الصوفية
عاصر أبو الحسن الشاذلي تيارات ومذاهب صوفية مختلفة ومتباينة التوجه والنهج، اندرجت في أغلبها بين تياري التصوف الفلسفي أو تصوف الحقائق، وتصوف الرقائق المعتدل. وقد انحاز الشاذلي، مسنودا بشخصيته القوية وبمؤهلاته، إلى التيار الصوفي المعتدل بل وأسس داخله لخط صوفي خاص، وعمل على إصلاح وتقويم الانحراف الذي أصاب الفكر الصوفي في عصره خاصة مع مدرسة ابن عربي وابن سبعين، وتمكن من تأسيس المدرسة والطريقة الشاذلية التي التف حولها الكثير من الأتباع والمريدين شرقا وغربا، بل واستقطبت كثيرا من العلماء وكتب لها الانتشار في كل أنحاء العالم الإسلامي. وكان تأثير التعاليم الشاذلية في التصوف المغربي وفي الغرب الإسلامي أكبر منه مقارنة بأي منطقة أخرى في العالم الإسلامي، فقد انطبع التصوف في هذه المنطقة في كثير من نواحيه بتلك التعاليم. وقد خلف الشاذلي في هذا المجال عددا كبيرا من الأقوال والأدعية والأحزاب: حزب الأنوار (حزب الفتح)، وحزب النور (حزب الحمد)، وحزب البحر. كما له أذكار وتحميدات وتوسلات بليغة جدا جمعت بين الفقه والتصرف والظاهر والباطن والشريعة والحقيقة، وألف اثنين وعشرين حزبا في التوسل والتلطف والتحصن والإستغفار والتجلي…[15]
خاتمة
لقد شغل إذن أبو الحسن الشاذلي مكانة رفيعة في حقل التصوف بالعالم الإسلامي خلال فترة القرن السابع الهجري (ق 13م)، فقد ظهر في عصر اتسع فيه إشعاع التصوف بشكل كبير بين فئات مختلفة من المجتمع الإسلامي، مشرقا ومغربا، وهو ما تدل عليه بروز أسماء كبيرة في سماء التصوف الإسلامي خلال تلك الفترة: كمحي الدين ابن عربي، وأبي الحسن الششتري، وابن سبعين الغافقي، وابن مشيش العلمي، وأبي محمد صالح، وأبي العباس السبتي، وابن عطاء الله السكندري… الأمر الذي ساهم في إغناء البيئة الفكرية الصوفية باجتهادات وتعبيرات وتيارات صوفية مختلفة ومتباينة. وفي هذه البيئة الصوفية الغنية فلا يُستغرب أن يكون أبو الحسن الشاذلي من أبرز المؤسسين والمجتهدين لتأسيس خط صوفي متميز ساهم في تشكيل تيار صوفي بصم المشرق والمغرب لقرون عدة ولازال إلى يوم الناس هذا.
المراجع
[1] السكندري ابن عطاء الله، لطائف المنن، مكتبة القاهرة، ط3، 1425هـ/2004م، ص 129.[2] السكندري ابن عطاء الله، لطائف المنن، مرجع سابق، ص 48.
[3] جلاب حسن، معلمة المغرب، ج 15، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2002، ص 5233-5234.
[4] أبو الحس الشاذلي -1-، مجلة دعوة الحق، العددان 60 و61. أنظر الرابط: https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/1371 .
[5] جلاب حسن، معلمة المغرب، ج 15، مرجع سابق، ص 5234.
[6] أبو الحس الشاذلي -1-، مجلة دعوة الحق، العددان 60 و61. أنظر الرابط: https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/1371 .
[7] جلاب حسن، معلمة المغرب، ج 15، مرجع سابق، ص 5233-5234.
[8] محمود عبد الحميد، المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي، دار النصر للطباعة، القاهرة، ص 37.
[9] أبو الحس الشاذلي -1-، مجلة دعوة الحق، العددان 60 و61. أنظر الرابط: https://www.habous.gov.ma/daouat-alhaq/item/1371 .
[10] محمود عبد الحميد، المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي، مرجع سابق، ص 45-46.
[11] محمد بن محمد مخاوف، شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، المطبغة السلفية ومكتبتها، القاهرة، 1349، ص 187.
[12] محمود عبد الحميد، المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي، مرجع سابق، ص 47
[13] جلاب حسن، معلمة المغرب، ج 15، مرجع سابق، ص 5234.
[14] محمود عبد الحميد، المدرسة الشاذلية الحديثة وإمامها أبو الحسن الشاذلي، مرجع سابق، ص 48.
[15] بوذينة محمد، أبو الحسن الشاذلي، دار التركي للنشر، 1989، ص 09-10 و ص 115 وما بعدها.