
المحتويات
توطئة
شكل السجن تجربة قاهرة لكثير من الناس الذين ذاقوا مرارتها ثم كتبوا لاحقا عن عوالم الجدران المطبقة والأبواب الموصدة. قاربت تلك الكتابات محنة السجن بطرق مختلفة، بحيث ينفتح عالم السجن المعتم على تجربة إنسانية شديدة الخصوصية في سياقها كما في تفاصيلها والزمن الذي استغرقته. إذ تشكل هذه المتون محاولة من هؤلاء السجناء السابقين، لكسر قيد الماضي الذي يظل السجين بين جدرانه حتى بعد التحرر الجسدي، إذ يغدو السجن لدى كثير ممن عانوا التجربة، قيدا مستقبليا، يمنعهم من الانفلات من أسوار السجن النفسية والذهنية وحتى الجسدية. وهذه الحالة النفسية وما يصاحبها من ألم لا تطال السجناء خلف الأسوار بل تؤثر في ذويهم وأقاربهم بنسب متفاوتة، وتدخلهم في متاهات، لاسيما أمام عراقيل الزيارة، والشوق للقاء، ولوعة الفراق، فالإنسان يكره تقييد حريته.
ويأتي كتاب “جراح تازمامارت؛ المعاناة النسويّة المغَيَّبة” لربيعة بنونة، تعبيرا عن هاته المعاناة، وشهادة على مرحلة من سنوات الرصاص، يكشف عن جزء من مأساة السجن والسجناء وأهليهم، ويهتم بفئة ربما لم يتم الانتباه لها أثناء التأريخ لهذه الحقبة المؤلمة بآلامها وآمالها، وهي فئة النساء المغيبات.
مضامين الكتاب
“انتزعت القفة وحملتها في عناء قاصدة السجن. كانت البوابة الحديدية مغلقة بشكل يدعو على الارتياب، رغم أن اليوم كان يوم زيارة. تعالت دقات قلبها وانحبست أنفاسها من القلق، وسمعت صدى طرقاتها على الباب… بدا جانب من وجه سجان برزت عظامه وهو يتمتم بكلمات لم تفهم كنهها. طلبت من الحاضرين أن يرددوا على مسامعها ما قاله :لا يوجد المساجين هنا، لقد اقتيدوا إلى وجهة مجهولة، وليس بإمكاننا الإدلاء بأي خبر عنهم. لا تعودوا إلى هنا! لا يريد المدير أن يراكم في هذا المكان مرة أخرى! تفهموا الأمر من فضلكم إذا بقيتم ستسببوا لنا مشاكل، إذهبوا إلى حال سبيلكم! الله يعاونكم!”. كانت تلك بداية الجحيم الذي تقودنا هذه الشهادة النسوية إلى دروبه القاسية والمعاناة الناجمة عنه.
لقد انتزعها القدر من حياتها الزوجية حين كانت شابة مقبلة على الحياة لا تكاد تتجاوز العشرين، حاولت فيما بعد أن تجعل لحياتها معنى يتمحور حول إطلاق سراح الزوج المختفي طيلة سنوات عديدة بذلت كل الجهد، ضحت بكل شيء، نسيت ذاتها وحقها الطبيعي في الحياة. انهارت مرات ثم استأنفت طريق البحث الشاق والمضني واجهت الإنكار والأبواب الموصدة، وتسلّط الإدارة، وقساوة المجتمع الذي لا يرحم امرأة لقيت مصيرا مأساويًا لا يد لها في صنعه وتجرعت مرارته حتى الثمالة …
هذه الفقرة من الكتاب/الشهادة وردت في آخر فصل من هذه الشهادة، وقد عملت فاطمة زرويل على ترجمة هذا العمل الذي يقع في 149 صفحة، وصدر عن الدار العالمية للكتب ومطبعة فضالة، سنة 2005م، وعلى سبر أغوار النص وضبط لغته لتكشف عن مسار شاق من المعاناة والألم، لخصت آهات امرأة كانت تحلم كسائر النساء بأحلام بسيطة، أجهضها زمن قاهر حرم الكثيرين والكثيرات من حقهم في الحرية والحياة الكريمة. لم تكن هذه المرأة تحمل أفكارا سياسية معارضة، ولم تختر في حياتها نهجا يعكس تلك الأفكار، أو يؤهلها لحملها. لم يكن هناك شيء في حياتها يبرر صنوف القهر الذي عانت منه، ومن مترتباته على نفسيتها وجسدها. (مقدمة الكتاب، ص: 3)
تلقي هذه الشهادة الضوء على المعاناة النسوية الناجمة عن لعنة تازمامارت التي كشفت كتابات من عاشوها عن العالم اللاإنساني والمرعب الذى كانه ذلك المكان السيئ الذكر، والذي يشكل وصمة عار على جبين كل من ساهم في صنعه، والإبقاء عليه مجهولا لسنوات عديدة. كما أنها أن، أي الشهادة، تعكس جانبا من معاناة أسر ضحايا الانتهاكات التى شهدتها المرحلة السابقة لحقوق الإنسان، وهي معاناة تجسّد أفعال لا ذنب لهم فيها. السجن الكبير الذي بات يحاصر أفرادها، من جراء مواقف أو أفعال لا ناقة لهم فيها. (مقدمة الكتاب، ص: 4)
حين نقرأ هذه الشهادة، تقول المترجمة، تتجسد أمامنا مأساة المسار الذي عرفته أسرة بريئة وصغيرة، مكونة من امرأة شابة وطفل ترعرع في الغياب القصري للأب. لقد طرقت كل الأبواب وحيدة، ورفضت خلال سنوات عديدة الاستسلام للأمر الواقع. جرؤت في ذلك الزمن على اقتحام أسوار تازمامارت الممنوعة التي كانت تخفـي عالما مرعبا ولا إنسانيا. حملت قفة السجن ذات يوم من أيام سنة 1975، وانتزعت الصغير من فراشه في الصباح الباكر، واستقلت سيارتها المتآكلة هي ووالدتها، وتوجهت إلى تازمامارت وانطلقت في طريقها من فاس، ووصلت حتى المدخل فأحاط بها الحراس الذين انشقت عنهم الأرض من كل جانب. (مقدمة الكتاب، ص: 5)
وقد تضمن هذا الكتاب بعد التقديم، مدخلا: الطريق إلى الرعب، لقاء الصدفة ومسار أسرة، في أهرمومو، الجحيم: المحطة الأولى، امرأة في تازمامارت، معاناة طفل، إشارات من العالم الآخر، ارتباك الدولة، الحقوق المهضومة: من جواز السفر إلى الطلاق، أفق اليأس المطبق، في ضيافة صديقة أمريكية، مسار الرعب المتجدد، عودة الميت الذي بعث من القبر، لقاء الابن بالأب العائد، العودة المستحيلة، عن اللجنة والمقاييس الخاصة بها.
خاتمة
ما زالت صاحبة الشهادة تعاني من مخلفات ما عاشته فى صحتها النفسية والبدنية، وأخطر من كل هذا العزلة والإحساس بالوحدة والحرمان والظلم. تبقى هذه الشهادة المكتوبة، تعبيرا عن آلام مئات من النساء مررن من التجربة نفسها، وكشفت عن المستور، ولعل الجانب الأصعب في تلك المعاناة هو العزلة والإحساس بالوحدة والحرمان والظلم… إن في سجل ربيعة بنونة الكثير من الأحداث التي تعكس ذلك، صراع من أجل معرفة الحقيقة دام سنوات، تخللته محاولات انتحار، وعمليات جراحية، وعلاج متواصل لمواجهة المرض حتى الآن…