نشأة فنان

ولد الرسّام ابن الرسّام ماريانو برتوتشي (Mariano Bertuchi) في غرناطة الأندلسيّة سنة 1884، ونشأ في كنف عائلة ذات أصول مالطيّة- نسبة إلى مالطا- يقوم بأمرها والده الرسّام والمصوّر الفوتوغرافي خوسي بيرتوتشي، فكانت هذه البيئة المفعمة بالألوان والصور والتراث الحضاري الإسلامي بالأندلس مؤثّرة غاية التأثير على تشكّل الذائقة الفنيّة لماريانو في ريعان شبابه.

سيلتحق هذا الفتى الإسباني سنة 1892، وعمره لا يتعدى ثمان سنوات، بمدرسة الفنون الجميلة، الموجودة في مدينة مالقا جنوب إسبانيا بغاية صقل موهبته التشكيلية وتأطيرها أكاديميا، هنالك حيث تدرّب وتمرّس في كثير من أبواب الفن التشكيلي ومدارسه[1].

وبعدما كان للبيئة التي نشأ فيها هذا الفنان دور في اختياراته الفنيّة، جاء دور سفره الأول إلى المغرب أواخر القرن 19م، حيث تقرّب من منطقة شمال المغرب واستوعب قيمها، ثم بدأ بدعمها ونشرها في شتى جوانب عمله إلى يوم وفاته[2].

برتوتشي.. مهام إدارية بالمغرب

لقد أدى افتتان بيرتوتشي بثقافة المغرب إلى الاستقرار بمدينة تطوان خلال حقبة الاستعمار الاسباني لشمال المغرب بين 1928 و1956، وبحكم تبنّيه لفكر إسباني متسامح مع الثقافة المغربية؛ يعتبره الكثيرون من ممثلي التيار الأفريقاني؛ التيار الذي عمل على تسليط الضوء على كل ما هو مشترك بين الإسبان والمغاربة، والحفاظ على مصالح إسبانيا في المغرب من منطلق الاحترام المتبادل.

لذلك دفعه الفكر الذي تبنّاه إلى أن يكون الناقل الأساس لصورة المغرب والمغاربة إلى إسبانيا خلال النصف الأول من القرن العشرين، في المقابل عمل على حماية الحرف الأصيلة بالمغرب ومساعدة الحرفيين على الحفاظ عليها من خلال مبادرات عديدة، كما كان له دور كبير في تدبير المجال الثقافي بمنطقة شمال المغرب خلال الحقبة الاستعمارية عن طريق المهام الرسمية التي تولّاها:

  • إدارة مدرسة الفنون الجميلة بتطوان سنة 1928، وبقي في هذا المنصب إلى وفاته.
  • رئيس مفتشي مصالح الفنون الجميلة والصناعة التقليدية في الأراضي المغربية الخاضعة للاستعمار الإسباني سنة 1928.
  • إدارة المتحف الأركيولوجي بتطوان (كان يسمى خلال الحقبة الاستعمارية ب “متحف المغرب”)[3].
  • مدير المدارس الفنيّة ب: تطوان وتاغزاوت ومدارس صناعة السجّاد بمدينة شفشاون.
  • إنشاء المدرسة الإعدادية للفنون الجميلة في تطوان يوم 12 دجنبر 1945، التي تكوّنت فيها عدة أجيال من الفنانين عرفوا في أوساط النقد الفني ب “مدرسة تطوان التشكيلية”، والتي تطورت لتصبح سنة 1993 المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان[4]، ولعلّها أكبر مساهمة قدّمها برتوتشي للمجال الفني بالمغرب في إطار مهامه داخل الإدارة الاستعمارية الإسبانية.

إسهاماته الفنيّة بالمغرب

كلّ المهام الإدارية المذكورة لا تحجب الجانب الأكبر من حياة شخصية برتوتشي الفريدة، فهو لم يكن إداريا بالدرجة الأولى بقدر ما كان فنّانا مميزا، ويؤكد ذلك الباحث “إدوارد ديزي كاسو” قائلا: “إن إنجازاته الفنيّة في مجال تعليم الفنانين ومحترفي الصناعة التقليدية تجعل من برتوتشي المولع بالتعليم أعلى مرتبة من برتوتشي الإداري”[5].

فنحن أمام ريشة فنان قدّمت إنجازات لا تقلّ قيمتها عما قدّمه قلم رجل إداري، إذ كانت لوحات هذا الفنان بمثابة أرشيف يؤرّخ الحياة الدينية والاجتماعية والاقتصادية بالمغرب في زمن كان التصوير الفوتوغرافي محدودا، فضلا عن ذلك أبرزت هذه اللوحات الفنيّة الذوق الجمالي والحياة الروحية التي تميّزت بها ثقافة المغاربة الغنية.

شملت مواضيع لوحات ماريانو بيرتوتشي: الأسواق والفنادق الشعبية، عادات السكان، والحياة الخاصة للمغاربة في ظل الاستعمار الإسباني[6]، كما أنه رصد عبر أعماله التشكيلية تفاصيل الحرف المغربية المتقنة وأشكالا مختلفة من اللباس المغربي الأصيل، وحاول بحرص شديد أن يبرز معالم الهندسة المعمارية التي ميّزت الأبنية السكنية والأزقة والمساجد داخل المدن العتيقة التي كان يطلق عليها الإسبان “الأحياء الإسلامية”، فضلا عن اهتمامه بالفضاء الداخلي للمنازل العتيقة من أبواب خشبية مزخرفة وحدائق وشُرفات ليؤرّخها بريشته تأريخا فنيّا.

لم يرسم بيرتوشي لوحات للعرض فقط، بل تعدى ذلك إلى إبداع واجهات المطبوعات: كالمجلات (ريفيستا دي طروباس كولونياليس – موريطانيا Revista de Tropas Coloniaes- Mauritania) والأعمال الأدبية التي خطّتها أنامل روائيين إسبان تصنف أعمالهم ضمن الأدب الاستعماري، هذا الأخير الذي يتخذ المغرب والمغاربة موضوعا له، فكان من المناسب أن تتخذ هذه الروايات لوحات بيرتوشي واجهات لها، مثل رواية “مكتوب” (!MKTUB¡) للكاتب “جريجوريو كوروتشانو”، ورواية “فاطمة” (FATIMA) للروائية “كارمين مارتين دي أسكاليرا”، ناهيك عن استخدام لوحات هذا الفنان كمواضيع للطوابع البريدية التي كانت تصدرها إدارة الحماية الإسبانية بالمغرب، وبقدر ما عبّرت هذه الواجهات عن مضمون الأعمال الأدبية والصحفية؛ نقلت بأمانة ملامح الحياة اليومية المغربية[7].

حصيلة إنجازاته وأبعادها الثقافية

إن أغلب أعمال ماريانو برتوتشي تكشف عن شعور بالانتماء لدى الفنان الإسباني إزاء المكان الذي يقيم فيه، والذي نسج معه روابط إنسانية وثيقة، فكل أعماله تقريباً تحاور الحياة اليومية للإنسان المغربي[8]، علما أن تطوان ظفرت بالحيز الأكبر من اهتمام الفنان بحكم إقامته بها، لذلك ترك بصمته في هذه المدينة أكثر من غيرها، فهو الذي أشرف على التصميم الفني لساحة الفدّان القديمة – وهي الساحة تم هدمها وأعيد بناؤها في موضع آخر وسط مدينة تطوان لكن مع إحداث تعديلات على تصميمها، كما أعطى هوية جديدة لمدرسة الصنائع والفنون بعدما صمّم حديقتها وزيّنها بزخارف وتصاميم ذات طابع أندلسي- مغربي.

خاتمة

في مدينة تطوان ودّع الفنان الإسباني الحياة يوم 20 يونيو 1955، عن عمر ناهز 71 سنة، تاركا وراءه إرثا فنيّا فريدا،أسهم عن طريقه في إعطاء الثقافة المغربية بكل مظاهرها إشعاعا في المغرب وإسبانيا، ولم ير هذه الثقافة من برج الاستعمار، بل رأى فيها نقطة التقاء وتكامل ثقافي بين معالم الحضارة الأندلسية التي سكنت وجدانه وروح الثقافة المغربية التي عاش قريبا منها فعشقها وخدمها في نفس الآن.

لا تلغي هذه العلاقة الإيجابية بين برتوتشي والثقافة المغربية حقيقة كونه رجلا من رجالات الاستعمار، إذ في النهاية كانت مهمته الأساس هي تجميل صورة الاستعمار الإسباني، وتوطيد ركائزه في المجال الثقافي، لكن ما يحسب له، هو أنه استطاع تأدية مهمته المطلوبة بطريقة تخدم الثقافة المحليّة لتجعل منها محلّ تقدير واحترام الجميع، فليس من السهل أن تقنع المُستعمِر “القوي” بتقدير ثقافة “المُستعمَر” الضعيف، كما أنه من الصعب أن تعيد لشعب تقديره لثقافته وأركان هويته في أكناف مرحلة الضعف وتحت ظلّ الاستعمار، ولعلّ برتوتشي قد نجح إلى حدّ ما في تخطّي هذا التحدّي من خلال ما قدّمه من أعمال فنيّة وإنجازات إدارية.

المراجع
[1] Belén Abad Los Santos, Mariano Bertuchi como pintor de la intimidad marroquí, Creneida, 4 (2016), p, 565.
[2] إدوارد ديزي كاسو، "ماريانو برتوتشي نييتو (غرناطة 1884- تطوان 1955) مؤسس المدرسة الإعدادية للفنون الجميلة بتطوان ومبدع أسلوب فريد من نوعه، مصدر الذاكرة المشتركة"، أنظر: بوزيد بوعبيد، دليل مركز تطوان للفن الحديث، تطوان: وزارة الثقافة المملكة المغربية وإدارة الحكومة الجهوية الأندلسية، ص، 16.
[3] أنظر: Mariano Bertuchi/es.m.wikipedia.org/wiki
[4] بوزيد بوعبيد، دليل مركز تطوان للفن الحديث، مرجع سابق، ص، 15.
[5] إدوارد ديزي كاسو، "ماريانو برتوتشي نييتو (غرناطة 1884-تطوان 1955) مؤسس المدرسة الإعدادية للفنون الجميلة بتطوان ومبدع أسلوب فريد من نوعه، مصدر الذاكرة المشتركة"، أنظر: بوزيد بوعبيد،دليل مركز تطوان للفن الحديث، ص، 16.
[6] Belén Abad Los Santos, Mariano Bertuchi como pintor de la intimidad marroquí, Creneida, 4 (2016), p, 567. 
[7] Belén Abad Los Santos, Mariano Bertuchi como pintor de la intimidad marroquí, pp, 576-577.
[8] خالد الريسوني، "ماريانو بيرتوشي: فنان أندلسي ومدن مغرب، موقع العربي الجديد" https://www.alaraby.co.uk/.