المحتويات
توطئة
شهِدت بادية هنين “بجبال ثْـرارة غَربَيْ وادي الفناء”[1] بالمغرب الأوسط والتابعة سياسيا وجغرافيا للدولة المرابِطية، في يناير من سنة 1094 ميلاد مَن سيصير أنْبَغَ رجالات الغرب الإسلامي العسكريين والسياسيين؛ عـبد المؤمن بن علي الكومي.
مستويات التلقِّي ورغباتُ الـمتلقِّي
تَلقّى الفتى النّابه دروس العربية والعقيدة في مسقِط رأسه، وفي كتاتيبها حفظ القرآن الكريم، ثمّ حَدَتْه الرَّغبة في طلب العلم خارج القُطر التابع لنفوذ وحُكم دولة المرابِطين، وبعيداً عن أنظمة التعليم الـمُسيَّرة من قِبَل حكّام بني حمّاد، فعَزم على التوجّه للمشرق، إلا أنَّ الأقدار كانت تُهَيِّءُ له أنْ يَبْزُغَ نَجمـه من المغرب، فكان أنْ تمَّ اللقاء الذي سيُشكِّل نُقطَة تَحوُّل في قناعاته المذهبية واختياراته العِلمية، بالرجل الورِع المثير للجدل؛ الفقيه محمد بن تومرت (1077م – 1130م).
وَجَد ابن علي في ابن تومرت ضالته العِلمية وواحَته التربوية، ووجدَ ابن تومرت في التلميذ الجديد حاجته لـلمُريد، فكانَ أنْ نَشأ عن علاقة الشيخ بالـمريد صُحبة علمية وصداقة إنسانية ستصير تحالُفاً سياسيا وإستراتيجيا قَـلَب موازين الـقُوى في الغرب الإسلامي، وأَسَّس لتجربة سياسية ستُعمِّر إلى مطلع 1292م.
تَوثّقت الصِّلة بين الرجلين، ومِن بجاية كانت الانطلاقة، وفي فاس استقرّا مَعاً، طاويان على فكرة سياسية ومذهب جديد. وسيُواصل التلميذ النجيبُ التلقي والارتقاء في الصُّحبة، ونَيْلِ ثِقة المهدي بن تومرت، صُحبة أنْتَجت زَعامة، سيرعاها ابن تومَرت إلى أنْ تَستوِي، وسيَسْتَثمِرها الكومي[2] بعد رحيل الزعيم الروحي للموحِّدين، ليتولَّى مهمة خليفة المسلمين لأربعٍ وثلاثين سَنة من حياته السياسية.
شخصية فَذّة وعزيمة متــوقِّـدة
عَلامات النُّـبوغ العسكري والسِّياسي بَدَت جَلِـية على شخصية عبد المؤمن، مِن يَـوم أَمَّـــــرَهُ ابن تومرت على قيادة جيوش الموحّدين في مواجهة المرابطين في معركة البحيرة الشّـهيرة سنة 524هـ، ووصفه ابن تومرت لخواصّ أصحابه قائلاً: “هذا غَلاّب الدُّول”، وأنه حرِيٌّ بزعامة الموحِّدين من بعده كونه كان طيلة سنوات الرُّفقة “ثَبْتاً في دينه، متبصِّرا في أمره” وِفق ما أورده عبد الواحد المراكشي في “المُـعجِب في تلخيص أخبار المغرب”[3].
تُـوفِيَ صديق عبد المؤمن، الأب الروحي لحركة الموحِّدين ومؤسسها فــ”بَكا عبد المؤمن لفراقه بكاءً شديداً”[4]؛ ثمَّ بايع الأتباع والأشياخ ابن عليٍّ أميرا عليهم ناطقا باسم جماعته، كترجمة عملية أمينة لوصية مُرشِدهم ابن تومرت حين قال: “.. واحذَروا الفُرقة”، وفوق ذلك؛ فعبد المؤمن “كان رزينا وقورا سَريا عالي الهمة، خَليقا للإمارة”، حسب عبارة الإمام الذَّهَبي[5]. وكانت تلك بيعة صُغرى يوم 31 غشت 1130م، أو بَيعة السرّ كما وصَفها ابن القطّان[6]، ثم اجتمَعت له البيعة الكبرى لاحقا في شهر ربيع الأولّ.
تزَعُّمُ دولةٍ فتية تتجاوز الحدود القَبَلية
تَسنَّم عبد المؤمن زعامة الموحدين في ظرفية عصيبة وإثْر هزيمة ساحقة أمام قوات المرابطين، غير أنه أعمَل فكره وصبْره ومضى يمدّد مساحة رواج الخطاب الموحّدي في الشرق والجنوب الشرقي المغربي، ويُحضِّر الأتباع ذهنيا ونفسيا، لسنوات عديدة عمِل فيها على إنهاك الخصم في مواجهات متفرِّقة، قبل الاصطدام الحاسم مع قوات المرابطين.
ثمَّ جاء الدّور على الكومي ليَبْصُم تاريخ المنطقة ببصماتٍ خالدات، فخاض سلسلة حروب ضد آخِر أمَراء دولة المرابطين، تُوِّجَت بانتصار كاسِح للموحّدين، بضمِّهم وهران وتلمسان شرقا، وإخضاع القبائل الشرقية للدّعوة الموحّدية، ثمّ التوجّه لفاس، ومحاصَرتها سبعة أشهر، في صبر ودهاء عسكري لا يؤتاهما إلا كبار القادة، إلى أنْ خَرجت مِن يَدِ المرابطين، فدَخلها ابن علي منتصِرا يوم 5 ماي 1145م، كما دَخَل العاصمة التاريخية للمرابطين، حاضرة مراكش في مارس من سنة 1147م بعد حصار لها دام تسع سنين، ثم انضمَّ الشّمال ومدينتي سلا ورباط الفتح لنفوذ الحاكم الموحِّدي الجديد، ثمَّ قضى على الحمّاديين في المغرب الأوسط، واستأنف حملته العسكرية إلى إفريقيةَ، فأنهى حُكْم قادتها الزّيديين، فَـدَشَّنَ بذلك عبد المؤمن بن علي عَهداً جديدا في تاريخ المغرب الأقصى والأندلس تحت راية دولة الموحِّدين، وفي ظِلال وِحدة مغاربية قوية.
يُحـسَب للخليفة عبد المؤمن بن علي أنـه حَوَّل حركةَ دَعوةٍ وثورةٍ إلى دولة قوية شاسعة المجال مُهابة السلطان، وأَخْرَجَ الموحّدينَ مِن قوقعة الانشغال بالعقيدة التومرتية والتعلّق بكاريزما الإمام وأدْلُوجَة المـهدَوية، ووجّه طاقاتهم وعصبيتهم صوب تأسيس وتوطيد الدّولة، فكان الزعيم السِّياسي البارز الذي وحَّـد المجال الممتدَّ مِن مراكش إلى طرابلس الغَرب، ومِن أقاصي الصحراء جنوبا إلى تْـطِيلة Tudela في الشَّمال الأندلسي.
وفي الأندلس؛ أقرَّ ابنَه عُثمان نائبا عنه في غرناطة، وابنه يوسف واليا على إشبيلية، وابنه عبد الله على بْجاية، والوزير عمر إنتي واليا على قُرطبة. وفي إشارة دالة قال ابن الأثير: “ولو قَصَد مصرَ لأخذَها، ولَـمَا صَعُبَت عليه”، فاستتبَّ بذلكَ الأمر للخليفة ولدولة الموحِّدين.
وكانَ ابن الكُومي بما اجتَمع في شخصيته من قيمة الزهد وحبّ العلم والشّجاعة والحزم والحنِكة العسكرية ورُوح القيادة والتَّـطلُّع للسّيطرة ونشْر الإسلام ومَدِّ ظِلّ الدّولة الـموحّدية[7]؛ عوامِل جَعلته بَحقٍّ؛ مؤسِّساً لأزْهَى عهود المغرب الأقصى والشَّمال الإفريقي.
إرساء نُظُم الدّولة
لم تَشغله الفتوحات والتَّـوسعات عن إرساء دولة المؤسَّسات، فأحدَث تغييرا جذريا في نظام تدبير الشؤون العامة للدولة، بأنْ زَحْزح الأشياخ الموحدِّين عن هَرم السلطة وولَّى مكانهم كتائب الـحُفّاظ النُّـبغاء الذين أنجبتهم برامج التّعليم الموحدية، واعتبَر العلماء أولى بالمناصِب من الأشياخ والمؤسِّسين. واستَحدَث مناصب وزارية، ودِيوَاناً خاصاً به ضَمّ لفيفا من النجباء والفقهاء وبعض القادة العسكريين، واهتمَّ بالثغور والتَّحصينات الدفاعية وتجديد الأسوار التاريخية لبعض الـمدن وتجديد الرُّبُـط[8]، وأَمَر ببناء وتشييد مدينة الفتْح في جبل طارق سنة 555هـ بقصْد جَعْلِها مِن الحصون المتوسطية للجيوش المغربية العابرة ذهاباً وإيابا بَين الضَّفتين المغربية والأندلسية، وأنْشأ الأسطول البحري وأعطى انطلاقة بِناء حواليْ 400 قطعة بحرية أوَكْلَ إنجازَها إلى موانئ طنجة وسبتة وبادس والمعمورة في المغرب، ووهران في المغرب الأوسط، والمهدية في المغرب الأدنى (تونس)، وفي الأندلس كذلك.
اعتَمَد الكومي الرّقاصين _ أيْ سُعاة البَريد _ فطوَّر بهم نظام البريد بين الأقاليم، وفَرَض الخراج على القبائل المغربية.
ووفاءً لرمزية المكان الذي اتُّخِذَ مَقرَّا لاجتماعات الخلية الأولى للحركة الموحدية بقيادة العالِم المهدي بن تومرت ووفاءً لشخص المهدي كذلك، أَمَر عبد المؤمن الكومي ببناء مسجد “تنمل” (المسجد الأعظم) بمدينة تينمل جنوب غرب مراكش، والذي ما يزال إلى اليوم مَعْلَمة أثرية شامِخة تضمُّ إلى جانِبها ضريح صديقه وشيخه الزعيم محمد بن تومرت.
ومن تقديره لقيمة ما يمكله المغرب من ثروات طبيعية وباطنية؛ استثمرَ في معادن المغرب؛ كمِلْح منطقة سِجلماسة وفِضّة منطقة سوس (تازْرارات، زُجُنْدَر، تامْدلَّت..)، وفتَح بها باب الاغتناء والثَّراء للمغرب وللفئات الاجتماعية بالمنطقة.
أما على مُستوى نِظام الـحُكم؛ جَعَـل الـمُـلْك وراثيا، بتعيين وليِّ عهده وخَلَفِه مِن بَعده ابنه الأكبر محمد”وأمَـر بِـذِكْـرِه في الخطبة بَـعده، وكَتَب بذلك إلى جميع عُمّاله”[9]، فضمِن بذلك عدم توزُّع البلادِ بين مَجْلِس العَشَرة الـمُقرَّبين، أو ذهاب رِيح العَصبية الموحدية بين كَثْرَة الـمتنافِسين على السلطة. إلا أنّ ولَده هذا لن يَلْبَث أن يُعزَل عن الخلافة بعد أربعين يوماً من جلوسه على كُرسي والده، وبايَع الموحِّـدون أبا يعقوب يوسف بن علي الكومي، الذي سيُكمِل مشوار أبيه، ويكونَ بحقِّ من أعظم الأمراء في تاريخ المغرب الوسيط.
الاشتغال بالعلوم والريادة العلمية
وإلى جانب ما كان يمتاز به من ذكاء سياسي وبَسالة عسكرية وقُدرة تنظيمية عالية؛ كان عبد المؤمن عالِـمًا ولوعاً بالمعارف وشغوفاً بالعلوم؛ وأساساً الحديث والسيرة النبوية وعلم الكلام، وفي رِحابِ رعايته للعلم والعلماء نبغ واشتهر القاضي عياض اليحصبي، وابن دِحْية السَّبتي، والشيخ أبو محمد حسن ابن عبد الملك الكتامي، ومحمد بن إبراهيم بن خَلف المشهور بابن الفخّار، والمحدِّث المفسِّر عبد الحق بن عطية المحاربي، ويوسف بن سَعادة، وعلي بن خُليد الإشبيلي، والكاتب الأديب عقيل بن عطية، والشاعر محمد بن حبّوس، والبيدق أبو بكر بن علي الصنهاجي[10] المؤرخ الكبير، وعبد الواحد المراكشي..، وانتَعَشت على عهده وظيفة التوثيق واشتهر كثير من الموثِّقين، وأجْرى المرتَّبات للشعراء، وكان “مؤْثِرا لأهل العلم، مُحْسنا إليهم، يَسْتدعيهم من البلاد إلى الكَوْنِ عنده والـجِوار بحَضْرته، ويُجْري عليهم الأرزاق الواسعة، ويُظْهِر التّنويه بهم والإعظام لهم”[11].
هذا إلى جانب عناية ابن علي الكومي الكبيرة بالإسلام وبإقامة الدِّين وبالثَّـقافة الدّينية، وخِدمة الفقه والحديث والقرآن[12]، وترسيخ أقدام الوحدة الدينية والمذهبية في البلدان التي ضمَّها _ وذريته من بعده _ إلى نفوذ دولة الموحدين.
إضافةً إلى هذه المنجزات التي شهِدها عهده العامِر لمدة أربعةٍ وثلاثين سنة؛ خَصَّص جهودا طيبة لدعم التّعليم ونشر القراءة وتطوير النهضة العلمية بالأندلس، واعتنى بالــحُفَّاظ، وشجّع على التأليف، وفتح باب الحركية العلمية بين الأقطار والمغرب الأقصى.
خاتمة
وبَعْد تسعةٍ وستّينَ سنة من الحياة العامِرة؛ وافتِ الـمَنية الخليفةَ عبد المؤمن بن علي الكومي بِـعدْوة سَلا يوم 16 ماي 1163م، حسب رواية ابن أبي زرع في “الأنيس المُطْرب”، ودُفِنَ بــ“تينمل”، بجوار مرقد زعيمه الروحي ابن تومرت.
المراجع
[1] البيدق، أبو بكر الصنهاجي: "الـمُقتَبَس من كتاب الأنساب في معرفة الأصحاب"، تحقيق وتقديم عبد الوهاب بن منصور، دار المنصور للطباعة والنشر، ص: 13.[2] البيدق، أبو بكر الصنهاجي: "الـمُقتَبَس من كتاب الأنساب في معرفة الأصحاب"، مرجع سابق، ص: 50 – 51.
[3] (المراكشي) عبد الواحد: "الـمُعْجِب في تلخيص أخبار المغرب من لدُن فتح الأندلس إلى آخر عصر الموحّدين"، ضبطه وصححه وعلَّق عليه محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي، مطبعة الاستقامة، القاهرة، الطبعة الأولى 1949، ص: 196.
[4] (ابن أبي زرع) عبد الله: "الأنيس الـمُطرِب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس"، دار المنصور للطباعة والوِراقة، طبعة 1972، ص: 180.
[5] (الذّهبي) شمس الدين: "سِير أعلام النبلاء"، ضبط ودراسة وتخريج حسن عبد المنّان، بيت الأفكار الدولية، طبعة 2004، ص: 372.
[6] ابن القطان: "نُـظُم الـجُمان في ترتيب ما سَلَف من أخبار الزّمان"، دراسة وتحقيق محمود علي مكّي، الطبعة 2، 1990، منشورات دار الغرب الإسلامي، ص: 170.
[7] (كنون) عبد الله: "النبوغ المغربي في الأدب العربي"، ج 1، الطبعة 2، 1960، ص: 104.
[8] (ابن أبي زرع) عبد الله، "الأنيس المطرب.."، مرجع سابق، ص: 187.
[9] (ابن أبي زرع) عبد الله، "الأنيس المطرِب.."، مرجع سابق، ص: 194.
[10] انظر: أبو بكر بن علي الصنهاجي: "أخبار المهدي بن تومرت وبداية دولة الموحدين"، منشورات دار المنصور للطباعة، الرباط، طبعة 1971.
[11] (المراكشي) عبد الواحد، "المعجِب في تلخيص أخبار المغرب"، مرجع سابق، ص: 200.
[12] (ابن أبي زرع) عبد الله، "روض القرطاس.."، مرجع سابق، ص: 216