توطئة

استهل تقي الدين الهلالي ترجمته لكتاب “مدنية المسلمين في إسبانيا”، للكاتب الإنجليزي: “جوزيف ماك كيب” أحد أعلام الفكر والفلسفة بالغرب المسيحي بقوله: “أيها الولد أو الأخ الكريم، إليكَ أُقدِّم هذا الكتاب الذي هو خطوة في درس مناقب أسلافك العبقريين الذين ملأوا الخافقَين مجداً وسؤدداً، ورجائي أن تستمرَّ في إحياء مآثرهم وترسم خطاهم والاهتداء بهديهم، فإن ذلك وحده مع طاعة الله ورسوله، تقال عثرة المغرب ويرجع إليه عزه الغابر وسعادته السالفة، والله يوفقني وإياك لذلك..” (الكتاب، ص:5).

وبذلك تتبين لنا الدوافع الكامنة وراء ترجمة الهلالي للكتاب المذكور، والتي من بينها ما توارد إليه من بعض الطلبة العرب بجامعة غرناطة الذين يشتكون من تصرفات بعض الأساتذة الإسبان ممن يبخسون الحضارة الإسلامية بالأندلس وينسبون كل ممدحة لأنفسهم وينسبون كل منقصة هناك إلى العرب المسلمين وخاصة المغاربة منهم، وهو ما جاء في التقديم بقوله: “فسوَّلت لهم أنفسهم أن يعمَدوا إلى المغالطة والمكابرة، ويُضلِّلوا تلامذتهم وقراءهم بقول البهتان على العرب والمسلمين، وكتمان حسناتهم وخلق السيئات لهم..” (الكتاب، ص:7).

محتويات الكتاب

أما فصول هذا الكتاب، وتنويرا لعموم المثقفين بما ورد عن هؤلاء من الطعن في الحضارة العربية الإسلامية بالأندلس، ووصفها بأبخس العبارات، فقد اشتمل على ستة فصول: الأول بعنوان: الهلال والصليب، والثاني بعنوان: المُور في أوج مجدهم، والثالث بعنوان: مدينة النور والحب، والرابع بعنوان: علوم المغربيين وآدابهم، والخامس بعنوان: في أعمال اليهود، والسادس بعنوان: الظفر الإسباني في أيام المحنة: “محاكم التفتيش”.

كما نوَّه الهلالي بهذا الكتاب بقوله: “هو كما ستراه فريدٌ في بابه على صغر حجمه، يحتوي على فوائد جمة وأخبارا مهمة في ناحية من نواحي عظمة أهل إسبانية بغاية الإنصاف والبعد عن التأثر بالعصبية الدينية أو الوطنية، وقلما تجد مثل ذلك فيما كتبه الأوربيون..” (الكتاب، ص:21).

هذا، وابتدأ الهلالي الكتاب بإيراد ترجمة مختصرة لمؤلفه: جوزيف ماك كيب (Joseph MacCabe) الانجليزي، المزداد في سنة 1867م، والذي تربَّى في دير كاثوليكي حيث تعلَّم مبادئ العلوم، وانخرط في سلك الرهبان، لكنه غادَره واتجه إلى البحث والتنقيب والتحقيق في العلوم. وقد بلغت مؤلفات الرجل أكثر من 250 كتابا، وألقى آلافا من المحاضرات في العالم المسيحي.

  • في الفصل الأول الذي خصصه المؤلف للحديث عن الهلال والصليب، أبرز فيه ما كانت تعيشه أوربا المسيحية بداية من القرن العاشر الميلادي من تباب وخراب اقتصاديا واجتماعيا وعقليا طيلة خمسة أو ستة قرون، بسبب طغيان البابوية على الحياة العامة، حتى قيل عنه إنه “الزمان الذي بلغ فيه الانحطاط إلى دركة لا نظير لها، وإنه لفصلٌ من أشد الفصول البشرية شقاء وحزنا”. ولم تسلم من أوربة بكاملها إلا زاوية واحدة هي جزيرة (ايبيريا) الإسبانية التي تُسمَّى اليوم إسبانيا والبرتغال، والتي قيل عنها بعد أن تَسلَّمها العرب المسلمون وأقاموا حضارتهم عليها: “لقد أزيل الصليب من تلك الأرض في ابتداء القرن الثامن وحكمها المحمديون. أجل قد لمعت رايات العرب المطرزة محمولة مع متن القرآن ظافرة تجتاز جبال (بيونيس) تتألق في شمس (بروفينس) فرنسة ووصلت إلى ليون وقرى بركاندي..” (الكتاب، ص:30).
  • وفي الفصل الثاني سيبدأ المؤلف في عرض بعض مظاهر الحضارة الإسلامية بالأندلس، ولذلك اختار له عنوان: المور في أوج مجدهم؛ حيث ذكر أن: “الملوك الذين أنشأُوا مدينة الأندلس من سنة 756م إلى سنة 961م كانوا حماة كرماء ومحبين أوفياء للعلم وأهله، وكانوا أكثر الناس سخاء وجودا في مناصرة الشريعة والتعليم..” (الكتاب، ص:44. وأضاف كذلك: “وكان الخلفاء ينفقون على كثير من المدارس من مالهم الخاص، وكان سخاؤهم بأموالهم الخاصة للمصالح العامة مثل سخائهم لها من بيت المال” (الكتاب، ص:44).

كما عقد مقارنة بين ما كانت تعيشه بلاد الأندلس من إصلاح في البنيات العامة وبين غيرها من مدن أوربا، بقوله: “ولأجل أن تُقدَّر هذه الأشياء حق قَدرها ينبغي أن نتذكَّر دائما الاختلاف بين هذه البلاد وبقية أقطار أوربا. فاعلم أن أمهات المدن الأوربية لم توجد فيها قنوات لصرف المياه القذرة حتى بعد مضي ستمائة سنة من ذلك التاريخ.. أما في مدن المغربيين فكانت الشوارع مبلطة منورة قد سُوِّيت فيها مجاري المياه أحسن تسوية في أواسط القرن العاشر..” (الكتاب، ص:44).

أما ما يرجع إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الشِّيم فيُعبر المؤلِّف عنها بقوله: “ولا حاجة إلى أن أتكلم في ظُرف المغربيين ولُطفهم وشهامَتهم؛ لأنهم هم الذين طبعوا الشعب الإسباني طبعا لا يُمحى على الاحترام الشخصي واللطف الذي لا يزال من خواصه المستميلة في الصناع والفلاحين” (الكتاب، ص:54..).

  • ثم انتقل في الفصل الثالث للحديث عن مدينة مدريد، وبعدها مدن طليطلة وقرطبة وغيرها من حواضر الأندلس، وما عُرفت به هذه المدن من معالم حضارية وحرف وصناعات أيام تواجد المغربيين بها، واستخلص المؤلف في نهاية هذا الفصل ما امتاز به العلم والعلماء من تقدير وتشريف في هذه الفترة الزاهرة من تاريخهافقال في ذلك: “ولم يكن في الدنيا كلها ولا هو كائن اليوم بلدٌ يُكرَّم فيه العلماء والأدباء ويكافَأون بالجوائز العظمى، مثل ما كان في الأندلس، ولم يكن في الدنيا بلد غير الأندلس يحْوِي خزائن الكتب العجيبة والمدارس والكليات العامرة وجمعا عظيما من خيرة الكتاب البلغاء وذوقا عاما في المباحث العقلية مثل ما كان في الأندلس..” (الكتاب، ص:80).

وذكر المؤلف الشهير المؤرخ الكبير جوزيف ماك كیب كذلك في وصف قرطبة المسلمة ما نصُّه: “إذا أردنا أن نُقدِّر عظمة قرطبة العربية وغيرها من المدن الكبرى في المملكة العربية بإسبانيا يجب علينا أن نقابلها مع مدن أوربية في ذلك العهد..” (الكتاب، ص:44).

  • في الفصل الرابع تعرَّض المؤلف لذكر علوم المغربيين وآدابهم كما وقف على تمثلها بالأندلس في عدد من المجالات وخاصة الإنسانية والاجتماعية، ومن ذلك قوله: “كان عصر المسلمين في الأندلس عصراً عظيما في الإحسان والبر، وأعظم منهما عصرنا هذا الخالي من الأديان..” (الكتاب، ص:82).

وقد عدَّ المؤلف من الكتب التي كان الخليفة الحَكم الثاني يتوفر عليها في خزائنه الخاصة قد تراوحت ما بين 400 آلاف و900 آلاف كتاب، ما بين كتاب أصيل ومترجم عن اليونانية في مختلف العلوم في الطب والجغرافيا والفلسفة والفلك والكيمياء والتاريخ وغيرها، يقول في ذلك: “وهذه الغيرة على بثِّ العلم كانت عامةً في ملوك المغربيين، ونظام التعليم عندهم يُذكِّر بما كان من ذلك في روميَّة الوثنية ويُبشر بنظام التعليم في هذا الزمان..” (الكتاب، ص:84).

بل زاد توصيفا لذلك فيما بلغ من حرصهم على تعليم الأطفال أن أنشأوا مدارس خاصة للفقراء وأبناء الصناع والحرفيين، فقال: “لم تكن هناك قرية، وإن كانت صغيرة جدا، داخل حدود المملكة قد حرمت من بركات التعليم، وكان التعليم عامّا يتمتع به حتى أولاد أحقر الفلاحين..” (الكتاب، ص:84)، وبالمقابل يتحدَّث عن أوربة بقوله: “في حين كان ملوك بقية أوربا لا يقدرون أن يكتبوا أسماءهم في توقيعاتهم، وكذلك أشراف الروم من أعلى الطبقات لم يكونوا يقتدرون على القراءة والكتابة..” (الكتاب، ص:85).

  • الفصل الخامس خصَّصه المُؤلِّف لعرض مشاركة اليهود بالأندلس في الحياة العامة من خلال اندماجهم في المجتمع الأندلسي في التعليم والإدارة والحرف، ويطرح أسئلة ويحاول الإجابة عنها في باقي صفحات الكتاب حول: كيف كان حال اليهود قبل فتح العرب إسبانيا؟ وكيف صارت بعد ذلك؟ ولماذا استفاد اليهود من علوم العرب أكثر من الإسبانيين؟

وقد استعرض المؤلف عددا من الأسماء البارزة منهم، ومن ثم أشار إلى مساهمتهم في نقل تراث المسلمين وعلومهم إلى باقي دول أوربا بقوله: “واليهود هم الذين نقلوا ثقافة المغربيين إلى ما وراء حدود جبال بيرينه (بيرنيس) وعبروا بها البحر إلى إيطاليا..” (الكتاب، ص:98).

  • فيما أن الفصل السادس والأخير من هذا الكتاب جعله المؤلف للتأسف على هذه الحضارة والمدنية للمغربيين التي عاث بها الإيبيريون بعدما تقطَّع أمر العرب والمسلمين بالأندلس وضعف شأنهم حتى أصبحوا عرضة للنبذ والإقصاء، وصودرت حضارتهم وتعرَّضُوا لأبشع أنواع التنكيل وأخرجوهم من البلاد مدينة بعد مدينة، وأقاموا لهم محاكم التفتيش التي سَلَّطت عليهم أنواعاً مختلفة من التعذيب والطرد..

خاتمة

وقد عبَّر المؤلف في نهاية الكتاب عن الأسف العميق عن ضياع هذا الإرث الحضاري للمغربيين بقوله: “وليس هناك موضع أسِفتُ على ضيق المجال فيه طبقا لبرنامجي مثل ما أسفتُ عليه في هذا الكتاب، لأن تاريخ المغربيين عظيمٌ وخدمتهم للنوع الإنساني عظيمةٌ جدا ومهمة، وقد غمَط أكثر المؤرخين حقَّهم، ولعبت أيدي المُؤلِّفين المتعصبين لدينهم دوراً عظيما ومَكَروا مكراً كُبِّاراً في إخفاء فضلهم..” (الكتاب، ص:96).

وما يُميز الكتاب هو قيمة الإنصاف التي ذكرها المؤلف للحضارة الإسلامية بإسبانيا، ومن ذلك قوله: “لكن الحقيقة المثلى التي يتجاهلها مؤرخونا في تآليفهم بصورة فظيعة، هي أنه من القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر وصلت الفنون والآداب والإنسانية عند (المور) إلى المستوى الذي كانت قد وصلته في المدنية اليونانية الرومية، إن لم نقل إنها فاقتها..” (الكتاب، ص:22).

ويضيف تأكيدا لما آلت إليه المدنية الإسلامية فترتئذ قوله: “ارتقى النوع البشري في إسبانيا خلال قرون عديدة إلى أعلى درجات الهناء والغبطة والسعادة والشغف العام بكسب العلوم والفنون والإحسان إلى البؤساء وترقية الفنون والتهذيب..” (الكتاب ص: 22).

ثم زادنا تأكيدا لمستوى هذا العيش الرغيد الذي عاشته المدنية الإنسانية هناك فقال: “ولعلَّه إلى هذه الأيام الأخيرة لم تطلع الشمس على أمة أسعد ولا أهنأ ولا أرغد عيشا ولا أكثر رغبة في التمتع بالجمال والعلوم والأعمال المجيدة من المغربيين في إسبانية..” (الكتاب، ص:22).

فهذه بعض عبارات الرجل في إنصاف الحضارة الإسلامية بالأندلس، وأثرها على المجال الإنساني والعلمي والمادي على الأفراد والشعوب.

وبهذا يتبيَّن فضل هذا المؤرخ في تنوير الأجيال الأوربية بالحضارة العربية الإسلامية بالأندلس في نشر المعرفة والقيم الحضارية العالية، والرَّد على المتعصبين من مؤرخي العرب في قلب الحقائق وغمط المغربيين– بتعبيره- حقَّهم في إقامة صرح هذه الحضارة التي دامت ثمانية قرون، وتتبيَّن كذلك جدارة هذا الكتاب في القراءة والمطالعة والاهتمام.