المحتويات
مقدمة
كيف نقرأ مسار تطور علم أصول الفقه ونستشرف آفاقه على ضوء مقاصده؟ أو كيف ننتقل بالمقاصد من مجرد علم يطلب الحكم والغايات من وضع الأحكام، إلى فلسفة للعلوم وإطار نظري لفهم صيروراتها؟ ذلك هما السؤالان اللذان يسعى العلامة المقاصدي أحمد الريسوني للإجابة عليهما عبر كتابه “علم أصول الفقه في ضوء مقاصده”.
والكتاب على صغر حجمه، وسهولة عبارته، إضافة منهجية نوعية، ومبدعة في مجال شغل الكثيرين، ألا وهو موضوع تجديد أصول الفقه، يضع فيه الريسوني استراتيجية متكاملة حول الموضوع، انطلاقا من حصر نقط قوة هذا العلم، ونقط ضعفه، ورسم خطة للنهوض به، كل ذلك وفق منظور مقاصدي.
الفصل الأول: مقاصد علم أصول الفقه
يؤكد الدكتور الريسوني على أن علم أصول الفقه نشأ استجابة لحاجة واقعية تمثلت في “اتساع المنازعات الفقهية والحديثية، وتزايد التساؤلات المنهجية التي ظهرت آنذاك… وانقسام فقهاء الشريعة وحفاظها إلى فريقين متشاكسين، هما؛ أهل الحديث والأثر (أصحاب مالك بالحجاز)، وأهل الرأي والنظر (أصحاب أبي حنيفة بالعراق).[1]
كما أن ميلاده إعلان عن انتصار المقاربة العلمية المعترفة “بواقع الاختلاف… وبأن الخلاف العلمي خاصية يترك تدبيره والتعامل معه لأهل العلم” على المقاربة “السياسية السلطوية الفوقية”،[2] في إشارة إلى ما حاوله كل من الخليفتين أبو جعفر المنصور (ت 158هـ) وابنه المهدي (ت169هـ) بعده من حمل الإمام مالك على تأليف كتاب يجمع الناس عليه وطي الخلاف بقرار سياسي. وقد كان لهذه الولادة الطبيعية أن أكسبت علم أصول الفقه، مقاصد/ مكاسب شكلت نقط قوته خصوصا خلال فترته الذهبية في القرون الخمسة الأولى:
- المقصد الأول: معالجة قضايا الاختلاف في الدين؛ حيث قرب الإمام الشافعي بكتابه “الرسالة” الشقة بين أهل الرأي والحديث، وذلك بقبول الاختلاف كمعطى علمي موضوعي، واعتبار العلم به شرطا في أهلية المفتي، وبضبط مجالاته وتحديد المحرم والجائز منه.
- المقصد الثاني: تقعيد القواعد لتفسير النصوص؛ وهو مقصد بياني بالأساس، مرتبط بمبحث دلالات الألفاظ، وبتراجع مستوى اللغة العربية إثر دخول أعداد غفيرة من غير العرب للإسلام، وأمام خصوصية النص الشرعي اللغوية والاصطلاحية.
- المقصد الثالث: ضبط الاجتهاد في الدين؛ بتحديد مجالاته أولا، وتنويع طرقه بين استعمال الدلالات والعقول، وتدقيق بعض قضاياه من مثل: الاجتهاد في تحقيق المناطات، ومراعاة المقاصد والمآلات، والنظر في ملابسات التنزيل…[3]
- المقصد الرابع: بيان أصول المذاهب، والدفاع عن صحتها وحجتها؛ وهو مقصد ولد في سياق محاولة المذاهب الفقهية تحرير أصولها وقواعدها، وضبط مناهجها نتيجة المناقشات العلمية والنقدية فيما بينها.
- المقصد الخامس: تقعيد منهج التفكير والاستدلال العلمي؛ وهو نتيجة تلقائية للمقاصد السابقة، من حيث تحصيلها ل”القواعد الاستدلالية الصالحة لكل تفكير علمي، في أي مجال وأي علم – حتى ذهب الشيخ مصطفى عبد الرازق- إلى اعتبار علم الأصول مظهرا من مظاهر التفكير الفلسفي في الرسالة للشافعي.[4]
الفصل الثاني: علم أصول الفقه في طور الدَّخن والوهن
لم يحافظ علم أصول الفقه على الوفاء لمقاصده التي ولد من أجلها، فدخل في مرحلة الدخن والوهن بسبب “أمور عديدة داخلت علم أصول الفقه وانتشرت فيه، وهي ليست من حقيقته ولا من طبيعته، وقد كثرت فيه حتى أوهنته وحادت به عن مقصوده”[5]، ويقصد الريسوني بذلك “المنحى والمنهج الكلامي” الذي خالطه ثم هيمن عليه ابتداء من القاضيين عبد الجبار المعتزلي (325هـ- 415هـ) وأبي بكر الباقلاني الأشعري (338هـ- 403هـ). ما نتج عنه عدد من المزالق.
ومن المزالق التي يأخذها العالم المغربي على إقحام علم الكلام في علم الأصول، إدخال قضايا ذات طبيعة كلامية لا ينبني عليها عمل، من قبيل: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم متعبدا بشريعة ما قبل البعثة؟ وحكم الأفعال قبل ورود الشرع، والتكليف بالمحال، أو بالمعدوم، والتحسين والتقبيح: عقليان أم شرعيان، وتكليف الجن…[6]
وبالنظر إلى أن علماء الكلام كانوا يعتقدون أن علم أصول الدين ينبغي أن يكون حاكما على أصول الفقه، ومحاولة منهم “لتمرير مذاهبهم الكلامية عبر المسائل الأصولية… بحجة أن مسائل أصول الفقه يجب أن تكون تابعة لمسائل أصول الدين”[7]، فإنهم صبغوا المباحث الأصولية ب “ظاهرة التعقيد والتعسير خصوصا عند المتأخرين، وشرعوا في الاشتغال بقضايا لا وجود ولا معنى لها، فصاروا يتخيلون المسائل ويفترضون الإشكالات.. وينشئون لها إجابات صورية”.[8]
والعالم المغربي هنا، يؤكد على أنه لا ينكر استفادة علم الأصول من علمي الكلام والمنطق مثل إمداده ببعض القواعد المهمة على غرار: “الحكم على الشيء فرع عن تصوره”، و”عدم الدليل لا يدل على عدم الوجود”، وعدم العلم ليس علما بالعدم” و”ما أفضى إليه المحال فهو محال”… ولكنه ينكر الإفراط والإغراق في ذلك، مشبها علم أصول الفقه بمن يمشي على قدمين، وعلم الكلام بمن يطير بجناحين، وما فعله السادة الأصوليون المتكلمون هو أنهم ركبوا لعلم أصول الفقه أجنحة، ودفعوا به نحو الطيران في الهواء، فلا هو استطاع أن يطير… ولا هو بقي يمشي مشيته الطبيعية”.[9]
هذا دون نسيان أثر جمود الفقه، وسيادة التقليد المذهبي وهيمنة مقولة “ليس في الإمكان أفضل مما كان” حيث صارت الحاجة إلى علم أصول الفقه ضعيفة، ومنحصرة في فهم كلام السابقين. فكيف السبيل إلى تجديده وبعثه؟
الفصل الثالث: أصول الفقه في طور التجدد النهوض
بعد جرد نقط قوة ومكاسب علم أصول الفقه تاريخيا، وحصر نقط الضعف التي عانى منها، يعلن المؤلف عن استراتيجية للنهوض به في العصر الحاضر، انطلاقا من واجهتين تتضمن كل منهما أولويات محددة:
- واجهة التمسك بالمقاصد والمكاسب والخروج من المآزق: عبر إرجاع التوازن إلى علم أصول الفقه من حيث كونه علم بكيفية الاتفاق، كما هو بكيفية الاختلاف، فبعد أن نشأ هذا العلم لردم هوة الخلاف، حصره الكلاميون والمتأخرون والدراسات الجامعية المعاصرة في توليد الخلاف، داعيا إلى “إبراز الإجماعات والموافقات الأصولية، وتنميتها، وتحريرها من شوائب الاختلافات المتكلفة”،[10] ومنبها إلى أن الكثير من القطعيات قد طمستها الخلافات من قبيل “المصلحة المرسلة” و”سد الذرائع” و”تعليل الأحكام”…
ومن الأولويات التي يؤكد عليها هنا، تجويد الوظيفة البيانية لعلم أصول الفقه، ف”البيان لا بد أن يكون بما هو أبلغ في الإيضاح والإفهام من المبَيَّن”[11]، ويقترح لذلك التحري باليسر ونبذ الغريب المغلق، وإخراج المسائل الكلامية والمنطقية الدخيلة على الوظيفة البيانية، والتخلص من الخلافات اللفظية، وتوجيه العناية إلى السياق أو ما يسميه “معاني الخطاب” بدل التمركز حول “دلالات الألفاظ”، وتطلب مقاصد الشرع والعناية بها… كما يدعو في الأخير إلى ربط الأصول بالواقع عبر استقاء أمثلته وتطبيقاته من الواقع الحي للناس.
- واجهة المراجعات الأصولية في باب الاجتهاد: ويقدم الريسوني في هذه الواجهة بعض المراجعات التي يرى أنها مطلوبة في باب الاجتهاد، ففي شروط المجتهد، يرى أن العناية بشرط “فقه النفس” لم يحظ بالعناية اللازمة، إلا في مرات قليلة، ويقصد الريسوني بفقه النفس: “أن يكون المجتهد مفكرا غواصا ونظارا مقتدرا، فالاجتهاد خبرة متبصرة وجرأة متوازنة، وقدرة على التحليل والتمييز، والجمع والتفريق، وتركيب الحلول الشرعية ومطابقتها مع واقع الحال”[12]، لا مجرد حافظ باذل للجهد.
كما يدعو في هذا الباب الفقهاء إلى توسيع مفهوم الاجتهاد وعدم حصره في الفقه فقط، مستدلا بسياقات السياسة والقضاء والحكم بين الناس وتدبير شؤونهم اليومية التي جاء ضمنها في النصوص الشرعية، معتبرا أن “من حق أي اجتهاد تحرى الحق والعدل والنفع والحكمة- من خلال أدلة الشرع ومقاصده- أن يدخل كذلك، وأن يعتبر اجتهادا شرعيا، ويعتبر أهله مجتهدين”[13]. خصوصا في سياق بروز “المجتهدين الجدد” من القوانين والمؤسسات التشريعية، التي يمكنها تعويض تهميش المرجعية الإسلامية إذا تم الاعتراف بهم وتسديد مناهجهم.
ومن المسائل التي يراجعها هنا مقولة “أن الاجتهاد لا يكون إلا في الظنيات أو في الفقهيات” حتى وإن قويت حجة المجتهد، فهو يرى بإمكانية وصول المجتهد إلى القطع، إذ الأصل في الدين وأحكامه القطع واليقين”[14]، ويضرب أمثلة على ذلك رأي عمر رضي الله عنه في جمع القرآن، وتحول المسألة إلى قطعية بعد أن كانت اجتهادية لا نص فيها، و”وجوب نصب الأئمة والخلفاء ونحوهم من الحكام”، و”صحة الولاية لمن اختاره أهل الشورى والحل والعقد”، و”مشروعية اتخاذ السجون”، و”إجراء أحكام الزكاة في النقود الورقية والأموال الافتراضية”… وغيرها.
وأخيرا يشدد العالم المقاصدي على شرط قريب من مسألة عدالة المجتهد، ألا وهي استقلاليته عن القرار السياسي “فمن يتحكم في التمويل والتعيين، يتحكم في القرارات والمخرجات… ومن لم يكن مستقلا في رأيه ومواقفه، فليس موثوقا في اجتهاده”.[15]
خاتمة
كثيرة هي حسنات هذا الكتاب، رغم قلة صفحاته، ولعل أبرزها خلوه من الحشو والعموميات المعتادة في هذا الموضوع، إنه نوع من التخطيط الاستراتيجي والهندسة المقاصدية، التي تشخص البناء الأصولي، فترصد إمكاناته وقصص نجاحه وتبني عليها، وتشخص أعطابه وحالات فساده وتحاول علاجها، وتفتح آفاقا لتطويره، كل ذلك على ضوء المقاصد.
المراجع
[1] أحمد الريسوني، أصول الفقه في ضوء مقاصده، دار المقاصد، الطبعة الأولى، ص 26.[2] أصول القه في ضوء مقاصده، مرجع سابق، ص 24.
[3] أصول الفقه في ضوء مقاصده، مرجع سابق، ص35.
[4] أصول القه في ضوء مقاصده، مرجع سابق، ص 41.
[5] أصول القه في ضوء مقاصده، مرجع سابق، ص 53.
[6] أصول القه في ضوء مقاصده، مرجع سابق، ص 62.
[7] أصول القه في ضوء مقاصده، مرجع سابق، ص 63.
[8] أصول القه في ضوء مقاصده، مرجع سابق، ص 66.
[9] أصول القه في ضوء مقاصده، مرجع سابق، ص 74.
[10] أصول القه في ضوء مقاصده، مرجع سابق، ص 89.
[11] أصول القه في ضوء مقاصده، مرجع سابق، ص 94.
[12] أصول القه في ضوء مقاصده، مرجع سابق، ص 104.
[13]أصول القه في ضوء مقاصده، مرجع سابق، ص 107.
[14] أصول القه في ضوء مقاصده، مرجع سابق، ص 110.
[15] أصول القه في ضوء مقاصده، مرجع سابق، ص 114.