توطئة

أثارت الأبحاث المهتمة بديناميات الفاعلين الدينيين نقاشا واسعا بين الباحثين المشتغلين على النشاط الديني في المغرب، واتسمت الدراسات التي قاربت تمفصلات هذا الموضوع بالاشتغال على مستويات بعينها من مستويات النشاط الديني، ما فوت عليها فرصة امتلاك رؤية موسعة عن حقل دينامي، وعن منظومة دينية متعددة عالقة بالتاريخ ومرتبطة بالاجتماعي والثقافي، غير متعالية عن الأوضاع الاجتماعية، وعن ترسبات الذاكرة والتاريخ، وغير منفصلة عن إرغامات الماضي والتباسات المعيش. وظلت تلك الأبحاث بهذا القدر أو ذاك تعتمد مفهوما ورؤية للإسلام تعتبر فيها الدين مطلقا ونهائيا وناجزا، ما يجعل وشائجها الرمزية المضمرة ببداهات الحقل الديني تحكم رؤيتها، وذلك في تركيزها على الدين المعياري. وقد أدت حيوية اشتغال هذه الروابط إلى تقليص مجال الرؤية وتسييج موضوع هذه الدراسات، ما أدى إلى أثر فعلي تمثل في عدم اقتحام بياضات خصيبة وهوامش مغايرة لمألوف البحث السوسيولوجي ولسائد الدراسات في العلوم السياسية.

ومن أجل تجاوز هذه العوائق المنهجية وتوفير رؤية أشمل لدراسة النشاط الديني بالمغرب، أصدر الدكتور عبد الحكيم أبو اللوز، وهو أستاذ باحث بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعي بأكادير– جامعة ابن زهر، كتابه الموسوم ب “الإسلام المتعدد، ديناميات الفاعلين الدينيين”، من منشورات دار رؤية للنشر (طبعة 2024).

مضامين الكتاب

بالرغم من كون النشاط الديني ينطوي على تعدد الفاعلين وتباين مستويات التحقق، فإن هذه المستويات -في اعتقاد المؤلف- ذات طابع تفاعلي، لذلك يفترض أن حضور الإسلام في المغرب حضور متعدد، ويتمثل هذا التعدد في وجود ثلاث تشكيلات خطابية يميز فيها الباحث بين:

  • الإسلام الرسمي الذي يحيل على جملة التصورات والممارسات والسياسات الدينية المقننة بجهاز ديني رسمي بوصفه جهازا رئيسا وبأجهزة أخرى من أجهزة الدولة بوصفها أجهزة مساعدة.
  • وتتمثل التشكيلة الثانية في الإسلام السياسي بما هو جملة الخطابات والممارسات والتعبيرات والتنظيمات المشتبكة بعلاقات السلطة.
  • ويندرج ضمن التشكيلة الثالثة الموسومة بالإسلام الشعبي كل الممارسات الدينية الشعبية المرتبطة بالمجتمع والمتشكلة من التراث المكتوب والإرث الشفهي والمستبطنة لمسارات الوعي الاجتماعي ومسالك البحث عن المعنى والموجهة بالأطر الثقافية والأنساق الثقافية الفاعلة في المجتمع، بشكل جعل منها طرسا تتفاعل فيه الذاكرة والتاريخ، ويتصادى فيه الماضي والحاضر.

يعتقد الكاتب أن الانطلاق من هذا المفهوم الموسع للنشاط الديني في المغرب من شأنه أن يمكننا من الاقتراب من حقل ديناميكي تتجاذبه عناصر الثبات وعناصر التحول. إنها رغبة في الانتقال بالنشاط الديني من ضيق المستوى الواحد إلى رحابة البحث في مستويات لها صلة بفاعلين دينيين غفل عنهم الكثيرون. ولئن كان تخصيص السؤال حول مستوى بعينه؛ يسهم في تدقيق النظر، فإن هذا المنحى لا يمكن أن يحل محل رؤية موسعة تستحضر الأبعاد المختلفة للنشاط الديني، وهذا ما تبين للباحث عبد الحكيم أبواللوز بعد عقد من الإشتغال على الحركات السلفية في كتابه “الحركات السلفية في المغرب.. بحث أنثروبولوجي سوسيولوجي”، إذ بدا له أن السلفية والسلفيين بوصفهم فاعلين دينيين في المغرب، لم تكن تتحرك في فضاء معزول، ذلك أن تفسير تحولاتها ومستوى انغراسها الشعبي وتبين حواضنها، لا يمكن أن يكون ذا مصداقية علمية دون استحضار مجمل المستويات الأخرى المشكلة لفسيفساء النشاط الديني في المغرب. فقد أثار انتباهه انطلاقا من الاهتمام بالحركة السلفية قدرتها على اختراق المجال التداولي لخطابات تتسم المسافة بينها وبينه بالتباعد كالخطاب الحقوقي، ولئن صح هذا الترابط، فإن نفي تفاعلها مع تشكيلات خطابية ومستويات تنتسب للنشاط الديني، أمر غير ممكن.

لقد دفعت الملاحظة المنهجية السابقة الكاتب إلى توجيه اهتمامه البحثي انطلاقا من بداية العقد الثاني من الألفية الجديدة إلى دراسة تحولات الفاعلين الدينيين من منظور موسع ينطلق من مسلمة التفاعل بوصفها بالدرجة الأولى سمة مميزة للاجتماع البشري.

وسيرا على هذا المنحى المنهجي جاءت الهندسة النهائية للكتاب متضمنة لأربعة فصول أساسية حاولت، انطلاقا من رؤية الباحث لدراسة الحقل الديني المغربي، أن تغطي النشاط الديني في المغرب بتشكيلاته الخطابية الثلاث: الإسلام الرسمي، والإسلام الشعبي، والإسلام السياسي. فخصص الفصل الأول لمسارات التحول عند السلفية والسلفيين في المغرب، وأفرد الفصل الثاني لمقاربة الإسلام السياسي. أما الفصل الثالث فقارب فيه الكاتب مسألة تدبير الحقل الديني في المغرب في أبعاده ومكوناته المتعددة، في حين خصص الفصل الرابع والأخير للحديث عن بعض معالم الإسلام الشعبي بالمغرب.

خاتمة

لقد سعى الباحث عبد الحكيم أبو اللوز في كتابه هذا إلى دراسة وتحليل أوجه الخطاب والممارسة الصادين عن بعض الحساسيات الدينية العاملة في المغرب، أي أنه ينخرط في ذلك الجزء من المعرفة المعروف باسم دراسات الدين والسياسة الذي يتناول العلاقة المعقدة بين الدين والسياسة وتأثيرها على المجتمعات والدول. ويهدف البحث فيه إلى فهم كيفية تفاعل الأبعاد الدينية والسياسية وتأثيرها في تشكيل الهويات الفردية والجماعية والعمل السياسي، إنها محاولة تسعى إلى تحليل الظواهر الدينية والسياسية بطرق علمية ونقدية، مع الاعتماد على الأدبيات والمصادر الأكاديمية الموثوقة والبحوث السابقة لتوجيه القراء نحو فهم شامل ومتوازن للموضوع، مع التركيز على التحليل النقدي والمنهجيات البحثية لتقديم وجهات النظر متعددة مستندة على البيانات والأدلة خاصة ذات الطابع الميداني.