الشريف الإدريسي.. رائد جغرافيي العالم ومبدع “خريطة العالم”

مقدمة

الشريف الإدريسي السبتي، من كبار الجغرافيين المغاربة، ومن الرحالة الكبار كمواطنه ابن بطوطة الطنجي، قام بعدة رحلات أغنت رصيده العلمي والثقافي، فترك آثارا عظيمة في علم الجغرافيا وخاصة في مجال صناعة ورسم الخرائط (الكارطوغرافيا)، حيث رسم أكثر من 70 خريطة للعالم، كونت مجموعة خريطة كاملة للعالم المعروف آنذاك في عصره، وعرفت بخريطة الإدريسي، حيث كان أول جغرافي صحح الخريطة الكاملة للعالم بعد بطليموس[1]. كما صنع كرة فضية نقش عليها خريطة الأرض (صورة الأرض) بتفاصيل دقيقة سبق بها عصره. كما نبغ الإدريسي في مجالات علمية وأدبية أخرى كالأدب والشعر والعلوم الطبيعية والفلسفة والطب وعلم النجوم. وقد انتفع عدد كبير من الباحثين والدارسين والعلماء الذين جاءوا بعده، من إرثه خاصة في المجال الجغرافي وبعض فروع علوم الطبيعية والطب.

ورغم نبوغ الرجل وريادته في مجال الجغرافيا والخرائطية (الكارطوغرافيا)، فإن ذكره والتأليف حوله، خاصة من طرف المغاربة تأخر بشكل غير مفهوم، باستثناء إشارات بسيطة ويتيمة هنا وهناك، وذلك قبل أن يعاد اكتشافه من طرف الباحثين والمستشرقين الأوروبيين الذين عنوا به أكثر من عنايتهم بأي جغرافي آخر من المسلمين[2]، فبزغ ذكره وصعد نجمه إلى سطح الأحداث العلمية والتاريخية مرة أخرى في بلده. وقد أسهم في هذا الغياب في مؤلفات المغاربة والمشارقة على السواء، أن الشريف الشريف الإدريسي ترك بلده سبتة مبكرا، وخرج للترحال والتجوال بعيدا عن بلده المغرب ليستقر أخيرا في خارجها لدى ملك صقلية روجر الثاني (Roger II)، وكان من نتائج ذلك أن حياة الشريف الإدريسي يشوبها غموض كبير.[3]

مولد ونشأة الشريف الإديسي

ينتمي الشريف الإدريسي إلى بيت الشرفاء الأدراسة، وهو أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس بن يحيى بن علي بن حمود بن ميمون بن أحمد بن علي بن عبد الله بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي ابن أبي طالب. ويرتقي نسبه في طرفه الأعلى إلى إدريس بن عبد الله مؤسس الدولة الإدريسية بالمغرب، وفي طرفه الأدنى إلى علي بن حمود مؤسس الدولة الحمودية بالأندلس وهو من ملوك الطوائف. وبعد سقوط الإمارة الحمودية وانقراضها في الأندلس استقر أجداده في مدينة سبتة المغربية، وفيها ولد سنة 493ه/1100م[4]. ويلقب بالشريف بسبب نسبه الذي ينتهي إلى علي بن أبي طالب وفاطامة بنت الرسول (ص)، وبالإدريسي نسبة إلى جده الأعلى إدريس الكبر مؤسس دولة الأدراسة بالمغرب، ويلقب بالحمودي نسبة إلى جده حمود الذي تنسب إليه دولة بني حمود الذين حكموا مالقة بالأندلس، ويعرف بالقرطبي أيضا لأنه درس بقرطبة، وبالصقلي بسبب إقامته في جزيرة صقلية لمدة طويلة.[5]

في مدينة سبتة إذن نشأ الإدريسي وتعلم، خاصة وأنها كانت من القلاع العلمية في المغرب في ذلك الزمن وفي حقول معرفية متنوعة. وقد قيل أنه أتم دراسته في قرطبة بالأندلس. ورغم عدم وجود معطيات ومعلومات وافية حول مساره الدراسي وتفاصيله وشيوخه وأساتذته، فالإدريسي “كان على ثقافة أدبية متينة، يدلنا عليها إنشاؤه البليغ وشعر البديع…كما كان على ثقافة رياضية كاملة من حساب وهندسة وجغرافية فلكية وطبيعية وسياسية، وهذا فضلا عن معرفته بالطب ومنافع الأعشاب وأماكنها وأعيانها، فهو طبيب ونباتي أيضا”.[6] وقد ساهم في اتساع ثقافته وتنوعها ليس فقط التكوين الدراسي الذي تلقاه ولكن ساهم في ذلك رحلاته العديدة. فقد بدا تجواله وترحاله مبكرا، وهو لازال ابن ستة عشر عاما.

رحلاته وتأليف كتاب “نزهة المشتاق”

قادته رحلاته إلى مناطق شمال إفريقيا وبلاد الأندلس، كما زار عدد من مدن فرنسا وشواطئها الأطلسية، إضافة إلى بعض مدن الشاطئ الإنحليزي. كما رحل سنة 510ه/1116م إلى الشرق فزار مصر والشام، وتجول في بلاد آسيا الصغرى.  وفي سنة 533ه رحل إلى بلاط روجر الثاني النورماندي(Roger II)  (485ه-549ه/1093م-1154م) ملك صقلية. وقد حضر الإدريسي إلى صقلية بعد طلب ملكها منه ذلك ليعينه في أبحاثه الجغرافية، وطلب منه أن يصنع له شيئا في شكل صورة العالم، ولا يستبعد أن يكون سفره لصقلية لوجود بعض أبناء عمومته الحموديين، كان منهم القائد المشارك في الجهاد ضد روجر الثاني وكان من أفراد رعية  الملك الصقلي النصراني بعد تغلبه، وهو الذي أخبره بأمر الإدريسي وباهتماماته[7]. ويبدو أنه رحل إلى صقلية بعد رجوعه من المشرق إلى المغرب حيث جدد العهد بأهله وأصحابه في سبتة، واستعد الاستعداد اللازم لطول مقامه بصقلية، ويرجح أن يكون قدومه إلى صقلية في سنة 533ه أو قبلها بقليل.[8] وقد انتقل إلى صقلية وهي لم تزل تحتفظ بالطابع الإسلامي وكانت قريبة العهد بالحكم الإسلامي، ولم تزل تضم ساكنة مسلمة كبيرة كانت تعيش في وئام مع باقي الفئات الأخرى غير المسلمة مستفيدة من كون ملكها في ذلك الوقت روجر الثاني كان ملكا مستنيرا وعلى جانب من التسامح، وأكرم المسلمين وقربهم ومنع اضطهادهم، لما لهم من فائدة له ولمملكته، خاصة وأنهم كانوا العنصر الذي كان يحمل مشعل العلم والمعرفة الحضارة في الجزيرة، ونموذج الشريف الإدريسي كان خير دليل على ذلك.[9]

لما استقر الإدريسي ببلاط روجر الثاني كان أو لم مهمة كلفه بها هذا الأخير هو تأليف كتاب موسوعي وشامل حول مملكته، تتميز عن غيره من المؤلفات القديمة والحديثة بالدقة العلمية، وهو ما قام به الإدريسي بكل كفاءة حيث عمل على جمع مادة المؤلف وتنسيقها لمدة 15 عاما، وأرفق ذلك بوضعه خريطة للعالم ونقشها على صفيحة فضية. وبعد الفراغ من ذلك شرع الإدريسي في تحرير كتابه “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” المعروف أيضا بكتاب روجار أو بالكتاب الروجاري، وهو بمثابة تفسير وشرح لخريطة العالم الجديدة، وقد فرغ من تحريره عام 548ه/1153-1154م، وهو نفس العام الذي توفي فيها الملك روجر الثاني.[10]

وبعد وفاة الملك روجر الثاني سنة 548ه/1154م دشن ابنه وخلفه غليوم الأول (Guillaume I) عملية اضطهاد واسعة بحق المسلمين، ففر الإدريسي مع فر من المسلمين خوفا على حياتهم بسبب الحرب التي قادها الملك الجديد، والذي كان نصرانيا متعصبا على خلاف والده الذي اشتهر بمعاملة المسلمين معاملة ممتازة، كما اشتهر بإعجابه بالحضارة الإسلامية وعلومها وفنونها.

آثار الشريف الإدريسي العلمية

أحصى بعض الباحثين ستة عشر عنوانا لمؤلفات الإدريسي، وهي في حقيقة الأمر عناوين مترادفة أو جزئية لأربعة مؤلفات:

• “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”، وقد ألهفه ف مدينة باليرمو (Palermo)، ويعرف أيضا “بكتاب روجار” أو ب”الكتاب الروجاري”، لأنه ألفه –كما رأينا- لأمير صقلية روجر الثاني، والكتاب بمثابة موسوعة جغرافية دقيقة، وهو شرح لما أنجزه أو أشرف على إنجازه من خرائط، وهي سبعون خريطة للأقاليم السبعة. وهذه الخرائط تم نقشها على الكرة الأرضية الفضية التي تمثل العالم المعروف آنذاك، وقد ضاعت عقب اضطرابات عامة عرفتها صقلية سنة 1160م/555ه. وتوجد ستة نسخ كاملة على الأقل من كتاب “نزهة المشتاق..”. وفي سنة 1538م/944ه اكتشفت نسخة مبتورة من الكتاب بنابلس الفلسطينية، وهي محفوظة بباريس[11]. ويعتبر الكتاب أول كتاب عربي يطبع بأوربا عام 1592م/1001ه بمطابع المديتشي (Medici) المشهورة في مدينة روما، ولم يكن كاملا بل كان مختصرا معيبا بعنوان: “كتاب نزهة المشتاق في ذكر الأمصار والأوطان والبلدان والجزر والمداين والآفاق”، وتوجد نسخة منه بخزانة كلية الآداب الرباط، وأخرى بمؤسسة علال الفاسي بالرباط أيضا.[12] ثم ترجم إلى اللاتينية من طرف مترجمين مارونيين هما جبرائيل الصهيوني ويوحنا الحصروني، فنشر بباريس عام 1619م تحت عنوان “جغرافية النوبي”، وترجم من طرف بلدي (B. Baldi) إلى اللغة الإيطالية عام 1600، لكن كل هذه النسخ لا تذكر إسم المؤلف، ثم توالت الترجمات فيما بعد إلى لغات أوربية أخرى[13]. وبين سنة 1970م و1984م أشرف معهدان إيطاليان عريقان على إخراج طبعة كاملة للكتاب، بتحقيق مجموعة من الباحثين والمستشرقين المهتمين بالجغرافيا العربية.

وفي سنة 1931م طبعت الخريطة لأول مرة في طبعة ملونة من طرف المستشرق الألماني ميلر بعد جمع أجزائها، والذي أكد أن الإدريسي يرى أن الأرض مكورة على شكل بيضة وأنها منقسمة بواسطة خط الإستواء  إلى قسمين متساويين: شمالي وجنوبي، والمأهول بالسكان منها الشمالي فقط، أما الجنوبي فهو خلاء غير معمور لشدة الحرارة ولعدم وجود الماء فيه.[14] وفي سنة 1951 طبع المجمع العلمي العراقي خريطة الإدريسي بطول مترين وعرض متر واحد، وهو القياس المناسب للأصل، وذلك بإشراف الأستاذين محمد بهجة الأثري والدكتور جواد علي.[15]

• “الجامع لصفات أشتات النبات وضروب أنواع المفردات، من الأشجار والثمار والحشايش والأزهار والحيوانات والمعادن، وتفسير معجم أسمائها بالسريانية واليونانية والفارسية واللطينية والبربرية“، ويرد الكتاب في جل المصادر مختصرا بصيغة: “الجامع لصفات أشتات النبات، أو “الجامع لأشتات النبات”، وأحيانا بصيغة: “كتاب الأدوية المفردة” أو “كتاب المفردات”[16]. وقد عثر المستشرق الألماني هيلموت ريتر (H. Ritter) على مخطوطه بخزانة فاتح بإسطنبول عام 1928م. ضمنه الإدريسي أوصاف نباتية دقيقة، واعتمد في جانب منه على كتب الأقدمين ولا سيما كتاب ديسقموريدوس اليوناني. وتضمن أيضا كثيرا من أنواع الحيوان والمعادن والأشجار المتخذة للعقاقير.[17]
• “روض الأُنس ونزهة النفس” وهو كتاب آخر اقترن بالإدريسي رغم الجدل الذي أثاره نسبته إليه. وهو كتاب في حكم المفقود، وقد قيل أنه ألف لخليفة روجر الثاني على عرش صقلية، كما اختلف في موضوعه.
• “أنس المهج وروض الفرج”، يعتبر الكتاب مكملا لكتاب نزهة المشتاق، وهو عبارة عن تركيب لشبكة الطرق العالمية، ووضع المسافات بين المدن والمراكز المختلفة، وذلك بهدف تحقيق معرفة علمية دقيقة بالمسافات والأطوال التي تساعد على التعرف بدقة على حجم الكرة الأرضية.[18]

وفاته الشريف الإرديسي

لم يحظ تاريخ ومكان وفاة الشريف الإدريسي باتفاق الباحثين والمهتمين، لعدم ورود ذلك في ترجماته القليلة المتوفرة. إلا أن جلهم يجعلها في عام 560ه/1164-1165م، في حين يرى البعض أن وفاته كانت سنة 569ه.[19] أمان مكان وفاته فالراجح أنها كان في صقلية، مع الإشارة إلى أن العبض الآخر يؤكد أن الشريف الإدريسي اضطر لما اضطربت الأحوال في مملكة صقلية إلى الفرار إلى مدينة سبتة المغربية حيث أمضى بقية حياته إلى وفاته.[20]