المحتويات
مقدمة
يعتبر الشاي المغربي من العلامات المميزة للمطبخ المغربي، وذلك باعتباره مشروبا يوميا لجميع المغاربة بمختلف طبقاتهم الاجتماعية، فلا تكاد تخلو مائدة مغربية من مشروب الأتاي (أو أتاي وأيضا التَّاي)، ولا مناسبة من مناسبات المغاربة من جلسة حول أواني إعداد وشرب الشاي. ولا يختص بفصل من فصول السنة، ولا بوقت معلوم في اليوم، بل هو مشروب يهيمن على كل الفصول وأوقات اليوم. وحتى مع انتشار العادات الجديدة في مجال الأكل الشرب في صفوف المغاربة، خاصة مع انتشار المقاهي ودخول مشروبات أخرى على خط استهلاك المغاربة، فإن ذلك لم يزعزع الأتاي المغربي عن عرشه باعتباره مشوربا قوميا. ولأن الشاي المغربي ليس فقط مشروبا عاديا يستهلك وفقط، فإن المغاربة أحاطوا إعداده وشربه بطقوس خاصة لا يشبههم فيها أحد من الشعوب الأخرى، كما أنهم تفننوا في طرق أعداده. وبفضل هذه المكانة التي نالها، والاهتمام الذي حظي به، وكذا بسبب فوائده، والعناية التي أولاها المغاربة لإعداده وشربه وتقديمه للضيوف، فقد نال شهرة عالمية كبيرة بين أشهر المشروبات في العالم، بل وأصبح علامة ثقافية مغربية خالصة، كما تغنى به المغاربة في أغانيهم وأناشيدهم، ونظموا الأشعار حوله، وألفوا الألغاز حوله.
وينتمي الشاي إلى فصيلة التِّرْنْسْتْراميات Ternstremiae، ويكون في الطبيعة على شكل شجرة، وتكون أورقها على رمحية الشكل ومسننة. أزهارها بيضاء. أما الموطن الأصلي للشاي فهو منطقة آسام التي تقع في المناطق الجبلية في الحدود بين دولتي الهند والصين الشعبية. ويعتبر الصينيون من الشعوب السباقة إلى الاهتمام بالشاي منذ الأزمنة القديمة وذلك لأغراض طبية. وفي القرن الخامس الميلادي بدأوا في استهلاكه كمشروب، وذلك قبل أن ينتقل إلى مناطق آخري من العالم. وينمو الشاي في المناطق الرطبة والحارة التي تقع بين المدارين[1].
قصة دخول عشبة الشاي إلى المغرب…الأتاي في مواجهة الخمور
تعود أصول عشبة الشاي إلى منطقة الشرق الأقصى (الهند والصين)، وقد دخلت إلى المغرب عن طريق المبادلات التجارية. وقد بدأ استهلاكه والتغني به في أوساط النخب المغربية قبل أن يصبح المشروب المفضل لدى عموم الجمهور؛ فقرائهم وأغنياءهم[2]. وتشير المصادر التاريخية إلى أنها دخلت أول مرة إلى المغرب كدواء في عهد السلطان العلوي المولى إسماعيل (1082-1139ه/1672-1727م)، وفي عهد السلطان سيدي محمد بن عبد الله (1171-1204ه/1757-1790م)، عمل هذا الأخير على نشرها وتعميمها كمشروب حلال، وذلك بغرض القضاء على المشروبات المحرمة شرعا، والمضرة صحيا. كما شكل ذلك فرصة اقتصادية كبيرة لتنشيط الإقتصاد وجني الأرباح. وحول ذلك قال عبد الكبير الفاسي (توفي 1899م)، لما كان يترجم للسلطان سيدي محمد بن عبد الله: “وفي أيامه أيضا أظهر الله بالمغرب عشبة الأتاي المشروب بسائر أقطاره، وهو من خصائص صاحب الترجمة وأثره، ولم يزل يبدل المجهود في إشاعته وتكثيره وإذاعته بإطفاء مما عمت به البلوى من شرب الخمور، التي هي أم الخبائث وأقبح الأمور، حتى نسخ الله تلك الظلمة بهذا الضياء، وأبدل الله ذلك الحرام بهذا الحلال والذي شربه العلماء والأولياء. ويقال إن أول من شربه بالمغرب عم السلطان المذكور مولانا زيدان بن مولانا إسماعيل، كان خليفة من والده بثغر آسفي، وكان شريبا حتى أكسبه الشرب ألما عجز الأطباء عن معالجته، فجيئ بحكيم نصراني، فأمعن النظر فيه، فقال لابد من تخليه عن الشرب، فلم يجد إليه سبيلا، فأتاه بشرب الأتاي، ولم يزل يحسّنه إياه، حتى استغنى به عن الشرب، فعوفي بقدر الله. فلما لقيه والده المذكور (المولى إسماعيل) قص عليه الخبر، وأراه إياه، فشرب، ثم جيء به لولده مولانا عبد الله. وفي أيام صاحب الترجمة، شاع وذاع، وعم جميع المجالس والبقاع، ولم يزل في زيادة الظهور، والولع به في البوادي والحواضر على ترادف الأعوام والشهور، وقد مدحه الشعراء بكثير من الغزليات الأدبية، وذكروا له كثيرا من الفوائد الطبية”.[3]
وبين دخول الشاي إلى المغرب في مطلع القرن الثامن عشر الميلادي إلى فترة انتشاره بين عموم المغاربة، فقد ظل طيلة القرن المذكور مادة ينحصر استعمالها في البلاط الملكي والوسط المخزني، حيث كان الشاي ولوازمه من بين الهدايا التي اعتاد السفراء الأوروبيون أن يقدموها للسلطان وممثليه المحليين، إلى جانب سكر القالب والثياب الرفيعة. وحتى بداية القرن التاسع العشر الميلادي انحصر استهلاك الشاي في الوسط المخزني، وعند كبار الأثرياء على العموم. وفيما بين الثلاثينيات والستينيات من القرن 19م انتشر الشاي داخل الوسط الحضري. وخلال الفترة بين 1860م و1878م وصلت عادة شرب الشاي إلى البوادي المغربية المجاورة للمدن. وفيما بعد (بين 1880مو 1892م)، اتسع نطاق استهلاك الأتاي المغربي داخل مجموع البوادي. وفي مستهل القرن العشرين، كاد المشروب أن يعم الوسط الجبلي[4].
وقد استمر انتشار الشاي في صفوف المغاربة لمدة طويلة وذلك بفعل ظروف موضوعية مرتبطة بصعوبة الحصول عليه، وبسبب السجال الذي رافق دخول واستهلاكه بالمغرب، بين معارضين ومؤيدين، حيث ذهب المعارضون إلى حد القول بأن الشاي حرام لأنه يشبه الخمر، أما المؤيدون فقد دعوا إلى الاستمتاع بالمشروب الجديد كبديل عن الخمر[5].
كيفية إعداد الشاي المغربي.. طقوس خاصة
بفضل المكانة المتميزة التي يشغلها الشاي المغربي من بين باقي المشروبات التي يستهلكها المغاربة، فإنهم اعتنوا كثيرا بطريقة إعداده، وأحاطوها بمجموعة من الطقوس، كما تفننوا في طرق إعداده. فالتّاي المغربي يقدم عادة محلّى بالسكر؛ فالشاي المغربي يشرب لحلاوته كما يقال، وذلك رغم أن الشاي غير المحلى (المْسُّوسْ) أصبح يأخذ المشعل بشكل مطرد لدى المستهلك المغربي وذلك لدواعي صحية في الغالب، مع الإشارة إلى أن الصينيين كانوا يتناولون الشاي بدون سكر، بينما تبع المغاربة الإنجليز في تحلية مشروب الشاي. كما يتم إعداد الشاي المغربي مخلوطا غالبا بعشبة النعناع (أتاي بالنعناع)، خصوصا في فصل الصيف، وهنا وجه من أوجه تفرد المغاربة باستهلاك الشاي، فعادة إضافة النعناع إلى الشاي خاصية مغربية محضة[6]. كما يخلط بعشبة الشيبة (أتاي بالشيبة)، أو عشبة السالمية خصوصا في فصل الربيع، كما أن هناك أنواع أخرى تكون مخلوطة بأكثر من عشبة (أتي بالتْخْليطَة). وبصفة استثنائية يخلطه البعض بالزعفران، أو بالعنبر (الرند)، أو مع زهور البرتغال، وكذلك بالورد سواء كان زهورا أو ماء مقطرا.
ولأن الأتاي ليس مجرد مشروب منعش ومنبه في الثقافة المغربية، بل هو لحظة احتفاء ومسرة وتكريم للضيف، فـإن المغاربة أعطوا عناية خاصة لطريقة تقديم الشاي أيضا، واهتموا باقتناء الأواني التي يقدم فيها، من برَّاد من أجل طبخه، وكؤوس زجاجية ظريفة؛ إما شفافة عادية أو منقوشة أو ملوحة أو ملونة مزخرفة أو مذهبة. وقد يلجأ بعض الأثرياء إلى الزجاج البلوري النفيس (البلار). وتقدم هذه الكؤوس في إناء مستدير مصنوع من معدن عادي أو مموه بالفضة أو من النحاس أو الفضة يسمى “الصِّينيّة”، وهي في غالب الأحيان منقوشة ومزخرفة. وتوضع الكؤوس والبراد بشكل مرتب على شكل حلقة داخل الصينية. وبجانب الصينية توضع إلى جانبها صينية أصغر منها تحمل الربائع، جمع ربيعة، وهي عبارة عن أواني فضية أو نحاسية أيضا، لها أغطية قبابية الشكل، واحد منها يحتوي على السكر مكسرا، والثانية تحتوي على حبات الشاي الأخضر، والثالثة منها تحتوي النعناع أو ما في معناه، والرابعة عبارة عن كأس فضية أو معدنية بها ملعقة تستعمل لتحريك المواد في البراد الذي احتيج الأمر غلى ذلك[7].
ومن الأواني التي يُلجأ إليها في إعداد الأتاي “المْجْمْرْ” حامل الجمر الذي يطبخ فوقه الشاي، وينصب فوقه عادة البَقْراج أو الغلّاي الذي يغلى فيه الماء، وقد يستعمل بدل الغلاي آنية “البابور” الظريفة والمشهورة في الصناعات المعدنية (الفضية والنحاسية) بالمغرب، وهي عبارة عن آنية إبريقية الشكل تقريبا مقببة في أعلاها، يتكون بطنها الداخلي من طبقتين: الأولى خارجية للجمر، والثانية داخلية للماء، وتستعمل أساسا خلال المناسبات الإحتفالية، وسميت بذلك الإسم بسبب البخار الذي تنفثه[8].
وقد ذكر عبد السلام الزموري (توفي 1862م/1279ه) في قصيدة شهيرة حول مشروب الأتاي، بعض ما يحتاج إليه من تلك الأواني، فقال:
يُخْتار للأتاي بابُورٌ غَدا***بلَوْنه الأصْفَر يَحْكي العَسْجَدا
ورجح البَقْراج عَنه إلا***لعدم من يأتي به وإلاّ
إذا المَقام يقتضي البابُورا***كأن تردأْن ترخي السُّتورا
الأتاي المغربي من مرحلة “الدواز” إلى مرحلة الثقافة
لقد انتقل مشروب الشاي من مرحلة كان فيها الأتاي يشكل شطرا أساسيا ثانيا مع الخبز في غذاء العائلات المغربية، وخاصة الفقيرة منها، خصوصا منذ الحرب العالمية الثانية، حيث يقال إن الفقير يعيش من “الخبز وأتاي”، حيث يحل المشروب المذكور محل “الدواز” أي الغذاء الذي يرافق الخبز، وهو ما يتعود عليه الطفل منذ أن يبعد عن ثدي أمه[9]، فقد كانت العائلات تسميه دواز/جواز، تجوز به الخبز الحافي حسب التعبير المغربي الدارج، إلى مرحلة تحول فيها إلى مرحلة يستهلك فيها بشكل مكثف وفي كل المناسبات والأوقات مما جعل من المغرب من بين الدول الأكثر استهلاكا لنبات الشاي عالميا، فتحول من مجرد مشروب إلى لحظة احتفاء ومسرة وطقس يومي تحيط بها مجموعة من الطقوس والعادات الثقافية[10]. فالشاي عند المغاربة لا يحيل فقط على كأس الشاي، بل على جلسة الشاي وعلى الأسرة والصداقة، والضيافة والكرم، وإمضاء الوقت في الحديث، كما يحيل الأتاي النعناع على العادة المرتبطة بالهوية المغربية[11].
لقد كان من نتائج التحول الذي عرفته مكانة الشاي لدى المغاربة أن أصبح؛ من لحظة إعداده إلى احتساءه، علامة ثقافية مميزة للثقافة المغربية، وخاصة ما تعلق منها بطقوس الضيافة المغربية وطريقة العيش المغربي. وانعكس ذلك على نظرة المغاربة للشاي، فتفننوا في طرق إعداده واستهلاكه، كما مدحوه في أشعارهم وغناءهم، وحرصوا على إبراز فوائده الصحية، بل وألفوا فيه الرسائل والتآليف. فهذا الوزير ابن إدريس، يقول في مقطوعات شعرية له حول الأتاي:
اغنم بأنسك في دنياك أفراحا***وحل من حالفات إلا كؤوس الراحا
إن الأتاي لقوت الروح فاعن به***قد فاق بالطيب والحلية الرحا
وقال فيه أيضا[12]:
إن الأتاي تأتّى لي اصبوح به***مع فتية دمثو الأخلاق سادات
غاب المعرب والواشي لطيته***فطاب من طيب هذا الوقت كاسات
قل لابن عزوز خل الحيف ناحية***واعدل فإنط للأتاي آفات
وفي رده على من هجا الأتاي، قال[13]:
ألا يا هاجي الأتاي مهلا***فقد وافيتنا بالترهات
فلست بسامع فيه هجاءً***فإن شئت المديح له فهات
أَتري بنعمة عمت وطمت***أفي الأتاي وصف الذم يأت
حياة الأنفس الأتاي ضاها***فهل أحد يرى ذم الحياة
فليس الراح في الراحات يبدو***بأفضل منه في راح السقاة
وهو الحلو الحلال لشاربيه***توارثه الثقاة عن الثقاة
ففي الناس الأسافل والأعالي***وكل مثل وصف جلاه يات
وقال حمدون ابن الحاج:
وقد قالوا شربنا من الأتاي كل معتق***شرابا حلالا لا نبيذا ولا خمرا
وفي مقابل هذا الإحتفاء بالأتاي من قبل البعض، فإن هناك طائفة هجت الأتاي قائلة[14]:
أترى الأتاي أهل المال واتَى***وأما المقترون فلم يواتي
تساوى في التنعم فيه قس***وباقلة المنعم والتواتي
وكيف يلذ للرؤساء يوما***ةقد ضاهاهم فيه النواتي
فلو لم يأت إلا النزر منه***لأعوز غيرهم قدر النواتي
وفي فترة دخول الشاي إلى الجنوب قال الشاعر البعمراني نايت إخلف:
أضاع القوم الحب وأذابوه في الماء
أفسد علينا الشاي عمل الخير وبدل حال ذوي النوايا
فالشاي المغربي إذن يقترن في المخيال الجمعي للمغاربة بالجماعة والعائلة والأنس والضيافة. كما اقترن الشاي بلغة الهدية والهدية المضادة، حيث يسعى الطرف الأعلى إلى إلغاء الحواجز وتيسير التواصل، بل يسعى في بعض الحالات إلى إبطال المقاومة وترسيخ روابط التبعية[15].
وبسبب الوظائف الرمزية التي أصبحت للشاي، فإن طقس الشاي عند المغاربة اكتسب درجة كبيرة من الإحكام والصرامة خصوصا في مناطق سوس وشنكَيط والصحراء، وهو ما يتجلى في القصائد التي نظمها أدباء هذه المناطق. بحيث أسهبوا في ذكر الصفات والخصال التي يجب أن تتوفر في “مقيم الأتاي” (الذي يعده). فهناك فن القياس، وهناك الوقار والتواضع والإتزان والإعتدال والحكمة، إلى جانب النظافة وأناقة اللباس والهندام[16].
المراجع
[1] بنعبيد عبد المالك، معلمة المغرب، ج1، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا ص 105-106.[2] السبتي عبد الأحد والخصاصي عبد الرحمان، من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، سلسلة بحوث ودراسات رقم 25، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط1، 1999، ص 16.
[3] موسوعة أعلام المغرب، تنسيق وتحقيق محمد حجي، منشورات دار الغرب الإسلامي، تونس، ط2، 2008، ج7، ص 2443.
[4] السبتي عبد الأحد والخصاصي عبد الرحمان، من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ، مرجع سابق، ص 31.
[5] السبتي عبد الأحد والخصاصي عبد الرحمان، من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ، مرجع سابق ، ص 49.
[6]- السبتي عبد الأحد والخصاصي عبد الرحمان، من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ، مرجع سابق، ص 40.
[7] العماري أحمد، معلمة المغرب، ج1، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 1989، ص 105-106.
[8] العماري أحمد، معلمة المغرب، مرجع سابق، ج1، ص 106.
[9] السبتي عبد الأحد والخصاصي عبد الرحمان، من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ، مرجع سابق، ص 42.
[10] العماري أحمد، معلمة المغرب، ج1، مرجع سابق، ص 107.
[11] السبتي عبد الأحد والخصاصي عبد الرحمان، من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ، مرجع سابق، ص 21.
[12] العماري أحمد، معلمة المغرب، ج1، مرجع سابق، ص 107.
[13] العماري أحمد، معلمة المغرب، ج1، مرجع سابق، ص 107.
[14] العماري أحمد، معلمة المغرب، ج1، مرجع سابق، ص 107.
[15] السبتي عبد الأحد والخصاصي عبد الرحمان، من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ، مرجع سابق ، ص 44.
[16] السبتي عبد الأحد والخصاصي عبد الرحمان، من الشاي إلى الأتاي: العادة والتاريخ، مرجع سابق ، ص 45.