المحتويات
توطئة
تخلّد الذاكرة الوطنية المغربية يوم السادس والعشرين من شهر ماي من كل سنة بمزيج من مشاعر الفخر والاعتزاز والحزن والاشمئزاز؛ ذكْرى استسلام بطل معركة التحرير وقائد الحركة الخطّابية محمد بن عبد الكريم الخطابي في منطقة ترگيست، للسلطات الاستعمارية الغاشمة.
من جلباب الفقيه إلى جُبّة المقاوم
إنَّ القائد المجيد الذي كان في عَين المارشال هوبير ليوطي (تــ 1934) والإدارة الفرنسية المتوجِّسة منه – خاصة بعد انتصاره التاريخي في معركة أنوال سنة 1921، وتمدّد المجال لحركته، ونزوعها التوسعي المنتقِل من القبيلة إلى الوطن[1]؛ خليطا استثنائيا مِن “الكَمالية/كمال أتاتورك”، و”الجامعة الإسلامية/جمال الدين الأفغاني”، و”البُلشفية/فلاديمير لينين”؛ يُهدّد في العمق، وبِلا شَكٍّ الوجود الفرنسي في المغرب فضلا عن الوجود الإسپاني الكَسيح، وبذلك جَـيَّشت فرنسا أحد أكابر جنرالاتها التاريخيين، بَطل معركة فردان العسكري بيتان، لـمُنازلة المجاهد البسيط مولاي محمد بن عبد الكريم، ورَبْط التنسيق الدّولي مع الغُزاة الاستعماريين للقضاء على الحركة الخطابية المتوهجة، وبأبشع الأساليب، بعْدَ أن ضمِنَت فرنسا إلى جانبها سلطان المغرب المولى يوسف،[2] ونَجَحت في إخافته مِن التطلّعات السلطانية للأمير ابن عبد الكريم[3]؛ وهو مِن ذلك براء.
تَمَّ لهم ذلك؛ وقضى الله أمرا كان مفعولا، فاستَسْلم الزعيم الفقيه عن شَرفٍ ومروءة وشهامة، بَعْد أنْ فَلّت الهجومات الجوية والبرية الأجنبية من طاقةِ وقُوّة المقاومين والمجاهدين وفَقَدت قيادة المقاومة دَعْم ووعود الوساطات الدولية وعلى رأسها إنجلترا؛ [فاستَسْلَم] يوم 26 ماي 1926، بعد سِتّ سنوات من المواجهة الضّارية والانتصارات المتتالية، والبناء التدريجي للقبائل والاتحاديات وتعميق الشعور بقيمة الدفاع عن الوطن والانتماء للإسلام ومُثُلُه العليا التي تُعَدُّ”الـمُـسْـتَوْدَع العظيم للقوة الحيوية”[4] الـمُوقِدة في المغربي جذوة العمل لنيل الحرية والتحرر من ربقة الاحتلال.
وفيما لو قُدِّر لحركة الكفاح الريفية أنْ تتابع انتصاراتها، وقُدّرَ للسياق الدولي أن يغيّر عقليته الإمبريالية وتطلّعاته الاستعمارية وسياساته العَدائية ضد المغرب وإفريقيا وتَعْدِلَ عن تطبيق مُخرجات اتفاقياتها السرية والعَلَنية منذ 1904؛ لكان وارداً جدا انتشارُ حركة تحررية هائلة في باقي البلاد، ولنَشأت فيدرالية للأقاليم المحرَّرة مِن الاحتلال، ولانتهى الوجود الفرنسي والإسپاني بالمغرب في مطلع الثلاثينات، ولَنَتج عن ذلك انقلاب جذري في الأحوال وعوائد الوقت والعمران؛ كان بلا ريب سيُدوِّنُ تاريخا آخر للبلاد!.
حِصار ثُنائي وهجوم دمَوي
غير أنّ ظروفَ “ثورةٍ محاصَرة”، ووطَن مُقسَّم بين مناطق احتلال فرنسي وأخرى إسباني وثالثة دَولية، وسلطة مركزية ضعيفة وخائفة مِن تَنامي الزّعامات؛ وحالة ثقافية خانِعة، وحركة صوفية استَبْدَلت المجْد الجهادي بالمواسم البدْعية والعقليات الخرافية، وحركة جهدية ريفية مُتَـحَفّزة – وربما حالِمة _، ولِحكمة أرادها الله؛ حالت دون استكمال الأمير ومَن مَعه مِن المجاهدين والمسؤولين معركة التّحرير الشّاملة ضد الاحتلال الإسباني، مُقَدِّمة لتنسيق الجهود مع المنطقة السلطانية للكفاح الـمُشتَرك ضد الاحتلال الفرنسي.
ولم يَستسلم البطل المغربي إلاَّ والحركة الخطابية قد أَعْربَت عن نزوعها الوحدوي، وهُويتها الدّيمقراطية، ومَنطقها التَّقدُّمي، وحِسّها الدستوراني المبكّر، ومحاولتها التّقارب مع السلطان. ولم يَستسلم الأمير إلا بَعد ترتيبات[5] وظروف وتقدير سياسي، أرادَ من ورائِهِ حَقْن دماء المسلِمين الآمنين وإيقاف أهداف التنسيق العسكري الدّمَوي بين الكيانَيْن الاحتِلالِيين فرنسا وإسبانيا.
وقد ذَكَر الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي في محاضرة ألقاها بباريس سنة 1973؛ أنَّ الأمير ابن عبد الكريم الخطابي أمْـلى على كاتبه الخاص الحسن البوغدّادي في أجْدير نصوص مشروع دستور[6]، وذلك سنة 1922، غير أنّ النّص ضاع بسبب حريق نَشب بمقر قيادة الأمير إثر غارة استعمارية.
الأمر الذي يجعل مِن تلك المبادرة؛ حَدثا سابقا لأوانه تاريخيا وذهنيا وسياسيا؛ ومبادرة لَم تُقْدِم عليها أيُّ حركة مقاومَةٍ مُسلَّحةٍ في ظل الاحتلال، لا مِن قـبل ولا مِن بَعد. بما أهّـلها للعب دور بارز في النهوض بالمغرب المريض، وكانت سببا في قيام الحركة الوطنية المغربية سنة 1930. إذْ لم تَمض على استسلام الأمير ونَفْيه سوى أربع سنوات حتى كانت “الوطنية المغربية” المتأثّرة بالتاريخ المجيد للحركة الخطابية، والمكلومة بنَبأ استسلام الأمير، ناهِضة بمشروع الدولة؛ بعد أنْ جاءت الحركة الخطابية بمشروع الوطن، وتوفّقَت في التّعلم من شجاعته ومروءته ومِن وعيها الإستراتيجي، والاستلهام من كرامة نفسه وحبه لوطنه؛ ما به تقَوّت على مواجَهة المحتَل حتى ظفرت بالاستقلال.
المراجع
[1] انظر: (المساري) محمد العربي: "محمد بن عبد الكريم الخطابي؛ من القبيلة إلى الوطن"، منشورات المركز الثقافي المغربي، الدار البيضاء.[2] (برادة) ثريا، مادة يوسف السلطان العلوي، في "معلمة المغرب"،محموعة مؤلفين، مطابع سلا، الطبعة الأولى 1989، ص: 7686
[3] انظر ترجمته في: (سكيرج) أحمد: "الظّـل الوَريف في محارَبة الريف"، طبعة 1938، ص: 54.
[4] الـمُصطفى أخريف: "السياسة التعليمية في الشمال إبان الحماية وأوائل الاستقلال" ضمن أعمال الندوة العلمية "شمال المغرب إبان فترة الحماية وبداية عهد الاستقلال"، إشراف محمد القبلي، تنسيق المعطي منجيب،منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الطبعة الأولى 2014، ص: 225.
[5] سكيرج أحمد، "الظّـل الوَريف.."، مرجع سابق،ص: 96.
[6] انظر: (المساري) محمد العربي: "ثقوب في الذاكرة؛ أربع مذكرات وطنية"، منشورات جامعة محمد الخامس، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الطبعة الأولى 2014.