توطئة

عُرِف العَلّامة مصطفى بنحمزة بنشاطه العلمي والثقافي الغزير، وبمحاضراته ومناظراته التي تَحظى باهتمام بالغ من قِبَل مختلف شرائح المجتمع والنخب العلمية والدينية، واشتَهَر بالصّدع بما يَراه صوابا وحَقّاً، والدفاع عن شخصية العالم الـمشارك كما نجدها في تاريخنا الحضاري الـممتد من القرن الهجري الأول، كما عُرف أيضا بإسهاماته التأليفية في قضايا شرعية ولغوية وفقهية ونوازلية، أغنى بها المكتبة العربية والمغربية، وأثْرى النقاش الدائر في كثير من قضايا الدولة والمجتمع والدين.

وفي هذه المادة نَصِلُ القارئ بمضامين كُتَيّبٍ صغير الحجم، جليل الفائدة، كان في أصله بَحْثا تقدّم به الدكتور بنحمزة إلى مؤتمر الأشعرية الذي احتضنه جامع الأزهر الشريف، دون الإشارة إلى تاريخ تنظيم هذه الفعالية ولا إلى تاريخ طبْع الـكتاب، وجاء محافظا على عنوانه الأصلي “مَنهج الأشعري في قراءة النّص”.

فكرة مُثيرة في نطاقات الأفكار الطُولى

يَضع الشيخ بنحمزة الأشعرية ضِمن نطاق حركة الأفكار الكبرى التي أطّرت وأثّرت في الوعي الجمعي للأمة، بما كان لها من مضمون قوي، إلى جانب فكرة الخلاقة وما أدّته إلى ولادة تيارات قوية وأساسية في الفكر السياسي الإسلامي. وفكرة الإيمان “واندراج العمل ضمن مُسمّاه ومَضمونه على سبيل الشطرية أو الشرطية”[1] وما ساهمت به في خَلْق اصطفافات بارزة ومؤثّرة في تاريخ الأمة الإسلامية مشرقا ومغربا (سنة، خوارج، معتزلة، مُرجئة). وفكرة قراءة النص الشرعي واستدعاء تأويله، وما أحدثَـتْه مسألة التأويل من تكوين تيارات فكرية، كان الأشاعرة ممن اعتمدوا مسألة النّص، سعيا منهم لإثبات صحة رأيهم في خِضَم ما كانت تعرفه أقطارنا الإسلامية من تَعَدُّد الرؤى والتأويلات بين المعتزلة والشيعة وأهل السنة والجماعة ومدارسها العقدية التي “اعتمَدت التأويل بدرجات متفاوتة”[2]، وكان العلامة الشيخ المؤسس أبي الحسن الأشعري رائد هذه الفكرة أو القضية، ومن سار على منواه من تلامذته.

التأويل ضمن منهج قراءة النص

يرى الدكتور بنحمزة أنّ التأويل في مستواه الأدنى قاسم مشترك بين كل المذاهب العقدية، إلا أنه داخل التيار السنّي أدّى إلى بروز مدرستين انشغلتا به وشَغلتا مساحة هامة من الجدل بشأنه:

  • الأولى: تَرى صحة اللّجوء إلى التأويل التفصيلي “فتَصْرف كل كلمة أوْهَمت تَشبيها إلى معنى آخر تَستمدّه من أحد استعمالات اللغة”[3].
  • الثانية: تَقف عند قراءة بعض الكلمات الواردة في النص الشرعي مثل البصر، اليد، الكلام المنسوبة إلى الله سبحانه عندَ “عَتَبة الإيمان بها وإمْرارها بلا تَكييف ولا بُلوغ معنى التشبيه بها”[4].

يُبَين الكاتب حِدّة المواجهة بين من سَمّاهم رجال المدرسة النُّصوصية الذين وقَفوا ضد خيار تأويل النصوص، وأبرَزوا خطأه باعتباره من آثار التيار المعتزلي، ومَن أطلَق عليهم رجال المذهب الأشعري القائلين بالتأويل.

أبو الحسن الأشعري بين اتجاهين عَقَديين

يُعد الأشعري إمام الـمتكلِّمين في زمانه وخَطيب أهل السنة، والرجل الذي قامت حياته على فقه المراجعات والانتقال من طور الانعزال إلى المنهج السني، والعالم الواسع الاطلاع على المذاهب الـعقدية الأخرى، كعقيدة المعتزلة وغيرها، وواضع أُسُس عقيدة أشعرية وسطية ومعتدلة حيث لا تُـكفِّر أحدا من أهل القِبلة بِــذَنْبٍ.

تَبَنّـت أبا الحسن الأشعري “مدرستان مختلفتان اختلافا حادا في قضية اعتماد التأويل منهجا في القراءة. وقد أسعَفَ بهذا التبني أنّ أبا الحسن قَد تَقَلّبَ في أطوار من الدّرس العقدي بَعد أنْ انفصَل عن الاتجاه الاعتزالي، وكَتَب مِن المؤلَّفات ما يَصِحّ ظاهريا أن يُنسَب إلى مدرسته، إذا لم تُراعَ كتاباته التالية. ولهذا السّبب فقد وجَبَ ترتيب كل ما كَتَبَه وإعادته إلى مرحلته مِن الفكر والنّظر العَـقدي الذي مَرّ به الأشعري، ووجَب في نهاية الأمر الخُـلوص إلى أيّ ِكُتُبه كان هو المتأخر؛ مِن أجْل اعتباره سَنَداً للقول بعقيدة الأشعري الأخيرة”.[5]

وإنّ الأكيد أنّ أبا الحسن رحمه قد “أخَذَ باتجاهٍ يَتعامل مع النصوص تعاملا ظاهريا لا يَتأوَّل شيئا منها، وهذا المنهج يُعبّر عنه كتابُ (الإبانة عن أصول الديانة) من مؤلّفات الأشعري. ومَر الأشعري كذلك بمرحلة أخرى تَحدّث فيها عن نظرية الكَسب وسَكت فيها عن إثبات الوجه والعينين والبصر واليَدين [أيْ لله]، ويمكن إعطاء نموذج عن هذه المرحلة بما وَرَد في كتابه (الـلُّـمَع في الرد على أهل الزيغ والبدع) الذي يختلف اختلافا كبيرا عن (الإبانة) (..) ولَقد ذهب أكثر الراغبين في ضَمّ الأشعري إلى المدرسة الظّاهرية النّصية إلى أنّ كتاب “الإبانة هو آخر ما انتهى إليه ارتحال أبي الحسن الفكري، وهو الذي يمثّـل منهجه ومعتَقَده، (…) والذين اختَــاروا أنْ يَكون الـمنهج العَقدي الوارد في الإبانة هو الـمُعَبِّر عن عقيدة الأشعري؛ قد اضطَرّوا إلى القول بآراء ليس مِن اليَـسير التسليم بها حين تُتَوَخّى النزاهة الفكرية. فهؤلاء مِن جهة؛ قد انتَهوا إلى الفصل بين الأشعري وأعلام مَذهبه، واتّهموهم بأنّـهم غَـيّروا مذهب إمامهم، فأحدَثوا فيه مِن القول والتأويل ما لم يَقل به إمامهم. وهذا ادّعاء يصعُب مُجاراته لأنّنا لَم نَــأْلَف مِن أيّ مذهب إسلامي أنْ يَتواطأ علماؤه على التحريف والتزييف، ثم تُوافقهم الأمة على ذلكَ وتَسكت عنهم (..) وقد كان مِن مُستَلْـزمات القول بحَـيْدَة الأشاعرة عن مذهب إمامهم؛ أنَّ هؤلاء عمَـدوا إلى عَقْد الـمقارنة بين مضمون كتاب واحد هو كتاب الإبانة وبين أقوال الأشاعرة. وهذه مُصادرة على المطلوب، لأنّه لم يتمّ الحسْم بأنّ كتاب الإبانة هو آخر ما كَتَب الأشعري حتى يصحّ اتّـخاذه حُـجة على المذهب الأخير للأشعري”.[6]

موقف أبي الحسن من وُجود الـمجاز الـمُلْجئ إلى التأويل في اللغة

يَسرد الكاتبُ قائمة بأسماء العلماء المرموقين الذين عاشوا على مقربة زَمنية من أبي الحسن الأشعري ففهِموا مَذهبه ودَرَسوا ما فيه، وبَيَّنوا أُسسه ومواقفه، وجَمعوا “أشتات مَسائله العقَدية”[7]، ومنهم: محمد بن الحسن بن فورك (تــ 406) الذي أفْرَد كتابا لمنهج الأشعري عنونه بــ”مَجْرد مقالات أبي الحسن الأشعري”، وعَرض فيه لموقف الشيخ من وجود المجاز في اللغة، وقال بأنّ الأشعري كان يَرى وُقوعَ المجاز في اللغة، وأنّ كلمة “مَجاز” هي “في حد ذاتها شاهد على وُقوع الـمَجاز فيها”،[8] وهو الرأي الذي يُؤيده كبار علماء النحو في حضارتنا، ويُعزّزه الأصوليون حسب عبارة بنحمزة.

موقف الأشعري من وجود المجاز في القرآن الكريم

لم يُخْف الأشعري قوله بوجود المجاز في القرآن على غرار وجوده في اللغة، لا سيما والقرآن نزل بلغة العرب ولسانهم، ومثاله في قوله سبحانه {بل مَكْر الله والنهار}(سورة “سَبأ”، الآية: 33) حيث الواضح وقوع المكر فيهما لا لَهما، فــ”إذا أُضيفَ إليهما فالـمعنى أنّ المكر يقع فيهما”.[9]

ومذهب الأشعري في هذا الباب القول بوجود المجاز العَقلي في القرآن على وجه الخصوص، مع الميل للأصْل الذي هو الحَقيقة في الأقوال أو في النص الشرعي/القرآن. ومن هنا يَستنتج الدكتور مصطفى بنحمزة أنّ تعاملنا مع منهج الأشعري ضمن هذا المستوى يُوجِب التعامل مع الأشعري “باعتباره يَعتمد التأويل ويُعْـمِله في النّصوص الـمُوحية بظواهرها بالتّشبيه”.[10]

ومسألة إثبات المجاز في نَصّ القرآن تُدعّمه الشواهد البلاغية واللغة الشاعرية والتصوير الفني البليغ في آياته، حتى شاع بين علماء المسلمين القول بوجود المجاز في القرآن، ما خَلا العلّامة أبا إسحاق الإسفرايني والإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في القرن السابع، اللّذان أنكرا الأمر بصرامة، معتبِران المجاز في القرآن من عَوارض الألفاظ، مَسعاهما في ذلك حسب رأي الشيخ بنحمزة “قَطْع الطريق على مُنتَحلي التأويل ممّن بالَغ فيه أو استَعْمَلَه في إجهاض دَلالات الألفاظ الشرعية، وفَرْض مَضامين بَعيدة عن روح النّص الشرعي”.[11]

ويَرى الدكتور بنحمزة أنّ قضيةً مُثيرة كقضية قراءة النص الشرعي، قرآنا وسُنة والقول بالمجاز فيهما؛ لها امتداد في كثير من المباحث الشرعية، لا يجب “أنْ يَظَلّ القول فيها محصوراً في حَقل معرفي إسلامي واحد، بل يجب الرجوع بها إلى كل التخصصات العلمية ذات الصِّلة”[12]، لأنها لَـمّا كانت قضيةً مَن قضايا النظر في النص القرآني وجَبَ “الرجوع بها إلى علم التفسير لاسْتبانة إنْ كان الـمُفسّرون يَقولون بالـمجاز أم لا”[13]، وكذلك الشأن في إعادتها لعلم دراية الحديث بالنظر لكونِها قضية من قضايا دراسة النص الـحَديثي الشريف، وإعادتها لعلم أصول الفقه كونه يَشتغل على النصوص الشرعية في بعض مباحثه، وإرجاعها إلى علم اللغة لاتّصال قضية المجاز بمباحث علم النحو والصّرف، بما يُسعفنا جميعا في تحقيق “المعرفة الشّاملة لقضية الـمَجاز والتأويل ضِمن النسق المعرفي الإسلامي الذي تتكامَل فيه العلوم وتتواصَل”[14]، وبِناء المنهج الشمولي الـمستوعِب للقَضية.

ختاما

لم يَفُتِ الكاتبَ أن يَعود إلى قائمةٍ من أهَمّ مصنفات علم التفسير وعلم الحديث وعلم الأصول وعلم اللغة لعلماء السنة والجماعة منذ القرن الثاني الهجري في موضوع المجاز العقلي في القرآن، والمجاز في معاني القرآن، والمجاز اللغوي في القرآن، كابن زياد الفَرّاء والطّبري والنّووي والقاضي عياض والبخاري ومُسلم والقسطلاني وسيبويه والسيرافي وابن جِنّي؛ الذين أسهَمت مؤلّفاتهم في إثبات مَسألتي المجاز وحَقّ التأويل للنص الشرعي، سواء أكان قرآنا أو حديثا نبويا أو حديثا قُدْسيا، وعَبّرَت عنه بعضُها بعبارة “التوسّع في الكلام”.

أما ما قام به أبو الحسن الأشعري فإنما هو بناءٌ على هذا البناء، واستثمار في مُتاحات التوسع في الكلام.

المراجع
[1] (بنحمزة) مصطفى، "منهج الأشعري في قراءة النص"، ص: 3.
[2] (بنحمزة) مصطفى، "منهج الأشعري في قراءة النص"، مرجع سابق، ص 4.
[3] (بنحمزة) مصطفى، "منهج الأشعري في قراءة النص"، مرجع سابق، ص 4.
[4] (بنحمزة) مصطفى، "منهج الأشعري في قراءة النص"، مرجع سابق، ص 5.
[5] (بنحمزة) مصطفى، "منهج الأشعري في قراءة النص"، مرجع سابق، ص 3.
[6] (بنحمزة) مصطفى، "منهج الأشعري في قراءة النص"، مرجع سابق، ص 4 (بتصرّف شديد).
[7] (بنحمزة) مصطفى، "منهج الأشعري في قراءة النص"، مرجع سابق )، ص 7.
[8] (بنحمزة) مصطفى، "منهج الأشعري في قراءة النص"، مرجع سابق، ص 8.
[9] "مَسرد مقالات الشيخ أبي الحسن الأشعري"، ص 24.
[10] (بنحمزة) مصطفى، "منهج الأشعري في قراءة النص"، مرجع سابق، ص 8.
[11] (بنحمزة) مصطفى، "منهج الأشعري في قراءة النص"، مرجع سابق، ص 10.
[12] (بنحمزة) مصطفى، "منهج الأشعري في قراءة النص"، مرجع سابق، ص 11.
[13] (بنحمزة) مصطفى، "منهج الأشعري في قراءة النص"، مرجع سابق، ص 11.
[14] (بنحمزة) مصطفى، "منهج الأشعري في قراءة النص"، مرجع سابق، ص 12.