بين يدي التقديم

لم تحظ مؤسسة في التاريخ البشري بمثل ما حظيت به مؤسسة الأسرة من اهتمام تام وعناية بالغة، وما تقاربت المفاهيم والتعريفات لأي مؤسسة، مثلما تقاربت في تعريف مؤسسة الأسرة. إنها شكل خالد من أشكال التجمع الإنساني، وخلية فريدة يربط بين مكوناتها أَمْر جامع، أو بالتعبير القرآني ميثاق غليظ، تشد أفرادَها روابط متنوعة تجمع عادة بين أب وأم بعد زواج وأبناء بعد إنجاب أو تبنٍّ، يقوم الأبوان بكامل الرعاية وحسن التنشئة، ويبدعان على قدر الحاجة والطاقة والإمكانيات في توفير ما يحتاجون إليه جميعا تحت سقف بيت الزوجية.

وقد تنوعت زوايا البحث في هذه المؤسسة تاريخيا واجتماعيا ووظيفيا وسيكولوجيا وأنتروبولوجيا وقانونيا، وتعددت الخلفيات في تحديد معناها وشكلها ووظيفتها، لينتج عن هذا البحث المتعدد زخم مقدّر من الأبحاث والدراسات والمصنفات، أبرزت –حسب رؤيتها- مدى تأثير المعتقدات الدينية، والتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، في بنية هذه المؤسسة تبعا لتنوع الأزمنة والأمكنة.

وكتاب “الأسرة في مغرب العصر الوسيط” لمحماد لطيف واحد من الكتب التي تناولت مؤسسة الأسرة من زاوية تاريخية، تتبع من خلالها عددا من قضاياها خلال العصر الوسيط (المريني تحديدا)، وحفرت في تحولاتها وتغيراتها، وتابعت علاقاتها مع باقي المؤسسات، وهو موضوع هذا التقديم.

تقديم الكتاب

صدر كتاب “الأسرة في مغرب العصر الوسيط” لمحماد لطيف في طبعته الأولى سنة 2021 عن المطبعة والورّاقة الوطنية – مراكش، ضمن منشورات مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال، وهو في جزء واحد من 336 صفحة، وهو من مقدمة ومدخل تمهيدي وثلاثة فصول، وعشر مباحث.

والكتاب في الأصل رسالة لنيل الدكتوراه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة المولى إسماعيل– مكناس سنة 2009م. عنوانها الأصلي:  “الحياة الأسرية في المغرب الأقصى خلال العصر المريني” تحت إشراف الأستاذ الدكتور أحمد المحمودي.

  • المقدمة: أشار فيها الباحث إلى مسلّمة ساهمت في تصديه لهذا الموضوع وهي أن “الدارس لأوضاع الأسرة في تاريخ المغرب، قد يندهش عند اكتشاف أن الأبحاث والدراسات المنشورة التي تصدت لهذا الموضوع عبر حقبه التاريخية نادرة جدا”[1]، وإسهاما منه في هذا الورش البحثي يأتي هذا الكتاب الذي يتوخى “البحث في الحياة الأسرية خلال الحقبة المرينية”.
  • المدخل التمهيدي: وخصه للبحث في مقاربة مصطلح “الأسرة” و “العائلة” وأبرز فيه أن المعاجم تفيد في استخلاص ورسم حدود هاتين الكلمتين، إلا أنها “لا ترتب معاني الألفاظ التي تخص المجال الاجتماعي ترتيبا تاريخيا، يتيح معرفة الظرف الذي ظهر فيه المعنى أو المعاني الجديدة للمصطلح المبحوث فيه”[2] وأبرز أن مصادر المغرب الأقصى خلال العصر المريني تضم” ألفاظا مختلفة ومتنوعة تحمل مدلولات تشير إلى أصغر وحدة أو تشكيلة أو جماعة في المجتمع، وفي عمود النسب، ومن جملة الألفاظ عبارات مثل: الأهل، والبيت، والمنزل، والعيال، والجماعة، والدار” ليعبر عن عزمه على استعمال كلمة أسرة للدلالة على أصغر تشكيلة أو أدنى جماعة في المجتمع، تتألف من زوج وزوجة وأبناء”.
  • الفصل الأول؛ الزواج مراحله ومظاهره الاحتفالية: وضمّ مباحث عرّف من خلالها الباحث مفهوم الزواج وصورته ودوافعه، وحدد عددا من متعلقاته مثل اختيار القرين والاعتبارات الاجتماعية التي حكمت هذا الاختيار، مع رصد مقدمات الزواج مثل عقد النكاح ومكوناته وسن الزواج وترتيبات الخطبة وعادات الزواج ومظاهره الاحتفالية.
  • الفصل الثاني؛ بنية الأسرة والعوامل المؤثرة في صياغتها: وفيه مباحث ثلاثة، رصد فيها عددا من العوامل المسهمة في صياغة بنية الأسرة، مبرزا مكوناتها وأشكالها في الحواضر وبنيتها وخصائصها في البادية، مع إبراز العوامل المؤثرة في خلخلة بنيتها.
  • الفصل الثالث؛ العلاقات الزوجية ومشاكل الطلاق: وفيه رصدٌ لأشكال علاقات الود بين الزوجين ودورها في التوافق، لينتقل إلى تعداد أنواع النزاعات ومظاهرها، وأسباب الطلاق ونتائجه ومشاكله.

لقد أسهب الباحث في تحري تفاصيل بنية مؤسسة الأسرة زمن المرينيين، وخاض في العديد من الجوانب المرتبطة بالحياة الأسرية مغرب العصر المريني، مستعينا بلائحة مهمة جدا من المصادر والمراجع التي يمكن ترتيبها على النحو التالي: – 43 مخطوطا – 121 مصدرا بالعربية – 87 مرجعا بالعربية – 25 مقالا وبحثا بالعربية – 277 وثيقة – 25 مرجعا بالفرنسية – 14 مقالا وبحثا بالفرنسية. وهي لائحة تؤشر على سعة اطلاع الباحث، وصبره على سبر أغوار هذه المؤسسة الفريدة التي يجب أن تظل في منأى عن كل التهديدات التي قد تعصف بكيانها، ولتبقى مؤسسة معطاءة، تسند المجتمع في استمراره وبقائه.

على سبيل الختم

يتضح جليا من خلال مباحث هذا الكتاب أن مؤسسة الأسرة عبر التاريخ، لا يمكن إلا أن تكون في خضمّ ما يعتمل في المجتمع من تفاعلات وتغيرات، ولا يمكنها أبدا أن تبقى في معزل عن التحولات المستجدة، مما يحتّم – اليوم -تضافر الجهود من أجل إبقاء هذه المؤسسة بكامل عافيتها، وتوفير كل الضمانات التي تجنبها التفكك والانحلال.

المراجع
[1] محماد لطيف، الأسرة في مغرب العصر الوسيط، المطبعة والورّاقة الوطنية – مراكش، ط 1/ 2021. ص 7.
[2] محماد لطيف، الأسرة في مغرب العصر الوسيط، ص 11.