المحتويات
توطئة
أصْدر العلّامة المغربي والفيلسوف طه عبد الرحمن كتابه “ثُغور الـمرابَطة” سنة 2018، عن مركز مغارب للدراسات في الاجتماع الإنساني، الذي جاء في صِيغة أطروحة رائدة، وصَرْخة مُثَقَّف وازن في آذانِ صانِعي القَرار العربي والإسلامي، تُبصِّرهم بمكامن الـخَطر وطبائع الصراعات التي بسببها تدور عَجلة الإقلاع العربي في الفراغ، وفي المتن من تلكم الـمخاطِر، تحدِّي ضَياع فلسطين وعاصمتها القُدس. إلا أنَّ أبْـرَز ما استَوقَفنا في هذه الأطروحة القيمة نَظْرة فيلسوفنا لمسألة التّطبيع، ومُقارباته الائتمانية لنفسية الـمطَبِّعين، أفراداً ودُولاً ومؤسّسات.
الحُلول الإسرائيلي.. احتلال الأرض في الداخل وتطبيع العلاقات في الخارج
نستأذن الفيلسوف طه عبد الرحمن في إعادة صِياغة وتَقريب مضامين ما جاد به تحليله وتفسيره للصِّراع الفلسطيني الإسرائيلي، من الداخل إلى الخارج، للقرّاء في هذا المقال.
يُحلِّل الكاتب الأوضاع من مستواها الأدنى إلى الأعلى، ففي فلسطين المحتلة؛ يَسعى الصهاينة إلى “الاحتلال”، أيْ احتِلال الأرض وإيذاء الإله، بالتملُّك والاستيطان والإحلال. وهذا الإحلال حسبَ الفيلسوف طه على خمس مراتب: “الإحلال الثابت” – “الإحلال المتوسِّع” – “الإحلال المتدرِّج” – “الإحلال الــمُطلَق” – “الإحلال الــمُقَدَّس”، بما يجعل إسرائيلَ نموذجا صارخا وسيّئاً لرُوح التَّملُّك.
وفي العلاقة مع العالم العربي؛ تَعتمد إسرائيل “الحلول”، وهو عبارة عن إفساد الفِطرة لدى الإنسان العربي، والأنظمة العربية قبل ذلك، بما يجعلها تتلَقّى بالقَبول مَفاسد احتلال الصّهاينة لفلسطين. وللحلول الإسرائيلي هذا درَجَتان:
حلُول جُزئي:
وعنوانه البارز “قَلْبُ القِـيَم”، حيث تسعى إسرائيل مِن وراء التطبيع إلى تحقيق ثلاثة أنواع من الإفساد:
- الأول: إفساد الذاكرة بأنْ تصير الأنظمة المطبِّعة ومَن شايَعها مِن إعلاميين ومثقَّـفين وفنانين وغيرهم؛ تقدَح في سابِق مواقِفها وقِيمها واعتقاداتها تجاه فلسطين، أو على الأقل، تَنسى ذلك أو تنكِره جملَةً. والهدف من هذا؛ إلحاق اختلالٍ خطير في علاقة العَربي بماضيه؛ سواء أكان دولةً أو شعبا.
- الثاني: إفساد الثِّـقة بالذّات بأنْ يَصير المطبِّع فاقدا الثِّـقة في قُدرة الشَّعب الفلسطيني والمقاومة على تغيير الواقع هناك، ومُرْتاباً في جدوى دعْم الحقوق الفلسطينية، فيَصير بِدوره داعيا إلى إعمال “الواقعية السياسية” و”العقلانية الإجرائية” في التعامل مع الاحتلال. والهدف من ذلك؛ إلحاق اختلالٍ فظيع في علاقة الفلسطينيين والعرب بِحاضِرهم.
- الثالث: إفْساد التوجّه بأنْ يُضيِّع المطبِّع بَوْصَلَة المستقبَل في صراعه مع الإسرائيليين، فتضطربَ اختياراته وأولوياته، فلا يَعرف أيُطالِب الفلسطينيينَ بالاستمرار في المقاومة، أم يُطالبهم بالمساوَمة واستكمال مسار السّلام، أم يُـناشِدهم التَّعايش في إطار حَل الدولتين؟ فيَفقِد الوجهة. والهدف الـمُتَوَخّى؛ إنزال هزيمة ماحِقة على مستوى اختلال علاقة العربي والفلسطيني بالمستقبَل.
والقصْد العام من هذه المفاسد الثلاثة، أيْ اختلال علاقة العرب والفلسطينيين بالأبعاد الثلاثة للزمان (ماضيهم، وحاضرهم، ومستقبلهم)؛ هو اختلال العلاقة بالمكان، أيْ إضعاف التَّـعلق بالقُدس[1] وفلسطين وإفراغها من أيّ مضمون روحي أو عَقَدِي أو حضاري.
حُـلُول كُلّي:
وعنوانه البارز” “سَلْبُ الفطرة”، حيث تسعى إسرائيل إلى استِـئصال الفطرة العربية المقاوِمة، واستبدالها بوجودٍ عَربيٍّ حُلولي، أيْ إنسانا بلا فطرة، وهو الحُلُولِـيُّ الـمُـطَبِّعُ. ويَأخذ التطبيع في هذه الحالة أشكالا أربعة:
- أولاهما: تضْييع الطبيعة.
- ثانيهما: تضْييع الرّوح.
- ثالثهما: تضْييع القَداسة.
- رابعهما: تضييع الحياء.
بما يفيد أنَّ المطبّعين العرب والمسلمين، إنما هم في حقيقتهم “مُضَــيِّــعِــين”، لأنَّ التطبيع عبارة عن تضييع، ولذا يَعتبِرُ الكاتِبَ أنَّ كلَّ مُطبِّع يُضيِّع الطبيعة؛ بمعنى التحقُّق بالجِبِلّة، ويُضيِّع الروح؛ بمعنى التّحقق بالفِطرة، ويُضيِّع القَداسة؛ بمعنى التّحقق بالطُّهر، ويُضيِّع الحياء؛ بمعنى التّحقُّق بالخُلُق الأَوَّل.
فيصير المطبّع _ وعَى أم لم يعِ بما اقترف _؛ ذاتًا ضائعة ومُضيِّعة، وتَضييعها ذو وجهين؛ تضييعٌ للقِيم، وتَضييعٌ للأمَم.
التَّحديات الـمُنهِكات للأمّة العربية والإسلامية
الفيلسوف المتأمِّل في الواقع الإسلامي والعربي تأمُّلا فلسفيا مُنبَنِيًا على القِيم لا على مُقتضى التكهّن والتّحليل السياسي[2] المبني على المصالح؛ طه عبد الرحمن؛ يرى أنّ الأمّتين العربية والإسلامية أمام ثلاث تحديات فاصلة:
- تفريط العرب في القدس.
- تصَارُع الحكام المسلمين على النّفوذ.
- اقتتال العَرب فيما بينهم.
وهي تحدّيات مُهْلِكات مُؤذياتٌ لمجموع الأمّة، وتَزداد وتائرها سَنة بعد أخرى، وتدخُل بنا بعض الكيانات العربية رأسًا في هذه المُهلِكات الثلاث، وعلى رأس القضايا النِّزاعية؛ التطبيع مع الصهاينة وحمْل الفلسطينيين والعرب على التخلي عن القدس ومسار القضية.
يتناسى “المهرولون”[3] وراء سراب التّطبيع مع دولةٍ غير طبيعية أنَّ الوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية يتجاوَزُ _ وِفْقَ النظرية الائتمانية _ كَوْنه احتلالاً فقط؛ بل صار بما يَعتمده مِن أساليب تَملُّـكِـية خبيثة وظالمة، إحْـلالاً، والإحلال حسب تعريف طه عبد الرحمن هو “احتلال الأرض، مُنازَعةً للمَـالِكية الإلهية”، ويَقوم على ثلاثة وسائل:
- الاستيلاء بالقوة على بُقَع الأرض، خاصةً وعامةً؛
- الاستيلاء على ما فَوق الأرض، منازلَ ومَنابع ومآثِر؛
- الاستيلاء على ما تحتَ الأرض، أساساتٍ ودَعامات وحفريات.
فيما يَقوم هذا الإحلال الغاشم ضمِّ الـمستوطنات والجدران والطُّرق في البلدات الفلسطينية القديمة وفي الحواضر الجديدة وهو ما يندرِج ضمن “الإحلال الثابت”، ثم إعمال سياسات الإلحاق والاستِتباع الأمني والإداري والسياسي بشكل متَوسِّع، فتَـطبيق القوانين وممارسة الطقوس الدينية المنحرِفة، رُقِيا صوب “الإحلال الـمطَلق” للزمان والمكان الفِلِـسطِـينِـيَّين، وحِيازة الأماكن الـمقدَّسة.
بما يجعل هذه الدّولة المارقة منذ قامت سنة 1948؛ مسعاها الأساس ليسَ الاشتراك في التَّدبير تحت طائِلة إدارةِ التراب الفلسطيني وفق خطة حلّ الدولتين؛ وإنما مسعاها حسب تعبير فيلسوفنا “الاشتراك في التَّـمليك”.
وِفْقَ هذه الرؤية والفهم؛ يُقدّم الكاتِب تعريفا غير مسبوق للكيان الصهيوني، بقوله: “فحقيقة الدّولة الإسرائيلية أنّها أقرب إلى كونها مؤسَّسةُ أعمال منها إلى كَونها مؤسَّسَةَ أحكام (..)، هذه الدّولة عبارة عن النّموذج الأمثل لطُغيان روح التَّمَلُّك”! ، وتَجْهَد لإقناع الآخرين بالتطبيع معها تطبيعاً يرتفع إلى الاعتراف لها بهذه الـحقوق الـمزعومة، وأنْ لا يَتراجع العرب والمسلمون ودُولهم عن مسار التطبيع، فهي تُريد مُطَبِّعاً ” لا يَتوب مِن تَـطبِـيعه، بل على العكس؛ يُرسِّخه حتى يصير له سَـجِـيّةً” ![4]
فهل يستقيم مع هذا الحال أنْ نهرول إلى التّطبيع مع هذا الكيان غير الطّبيعي؟!
المراجع
[1] انظر: القرضاوي يوسف: "القُـدس قضية كل مسلم"، سلسلة ترشيد الصحوة، رقم 10، منشورات المكتب الإسلامي، طبعة 2012.[2] عبد الرحمن طه: "ثغور الـمرابَطة؛ مقارَبة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية"، منشورات مركز مَغارب، الرباط، الطبعة الأولى 2018، ص 11.
[3] قباني نزار: قصيدة بعنوان "الـمُهـرْوِلون"، منشورة بـــ https://www.aldiwan.net/poem6511.html .
[4] ،عبد الرحمن طه: "ثغور الـمرابَطة؛ مقارَبة ائتمانية لصراعات الأمة الحالية"، مرجع سابق، ص 31.