المحتويات
توطئة
يعد كتاب «جهود المالكية في تصنيف التصرفات النبوية»، والصادر عن دار الكلمة للنشر والتوزيع (2014)، للدكتور سعد الدين العثماني، محطة مبدعة في فهم السنة النبوية، من خلال تصنيف التصرفات النبوية – عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام-، وتتحرى مزيدا من المعرفة الشرعية الوسطية التي تدفع كثيرا من مظاهر الجمود والتشدد والانحراف. وقد حاول الكاتب من خلال كتابه هذا، وعبر العديد من المحطات التاريخية، التوقف عند أهم عطاءات علماء الفقه المالكي في مجال تصنيف التصرفات النبوية.
مضامين الكتاب
أصبح الحديث عن تصنيف التصرفات النبوية اليوم متداولا أكثر من أي وقت مضى، وتطورت فيه العطاءات المنهجية والمضمونية بشكل لافت للنظر. لكن تلك الجهود بقيت على العموم منحصرة في دوائر المتخصصين، وبقي الوعي العام بها ضعيفا. وفي كثير من الأحيان برز لدى العديد من الدعاة والمشتغلين بالعلوم الشرعية والشباب المتدين مقاومة لأي عمل في الموضوع، يحيي ما درس من فقه الدين، قرآنا وسنة. وقد نجد في جذور ذلك النفور ما ورثناه عن القرون المتأخرة من ميل إلى التعامل الظاهري والحرفي مع النصوص الشرعية بعيدا عن مقاصدها، وعن مقاصد الدين عموما. فعلى الرغم من أن عموم الاتجاهات الفقهية والأصولية عبر القرون تتبنى النظرة المقاصدية للشريعة وللنصوص الشرعية، وتقر بتنوع التصرفات النبوية، وتذهب إلى التمييز بين ما هو تشريعي منها وما ليس كذلك، إلا أن القرون الأخيرة المتسمة بالجمود في عموم حياة المسلمين، شهدت سيادة التقليد والحرفية في التعامل مع النصوص الشرعية، وعدم الالتفات إلى تلك القواعد المنهجية في فهمها. وبرزت أصوات وكتابات لا تفهم أقوال الرسول (ص) وأفعاله إلا على طريقة واحدة، ولا تنظر إليها إلا على أنها من لون واحد. وانغلقت داخل ألفاظ النصوص ومبانيها اللغوية، ولم تلتفت إلى الملابسات والقرائن المحيطة بها، ولا إلى أسرارها ومقاصدها التشريعية والاجتماعية والتربوية والدعوية .
وقد برزت عبر القرون محاولات حثيثة -من قبل علماء مختلف المدارس الفقهية والأصولية- لتصحيح ذلك الاختلال في فهم النصوص الشرعية، بالتأكيد على جهود المالكية في التمييز بين التصرفات النبوية. (مقدمة الكتاب، ص: 7)
إن النصوص الشرعية، كتابا وسنة، لا تفهم فقط على أساس من قواعد اللغة وأساليب البيان، بل تفهم أيضا وأساسا من قصد الشارع، وإن “قصد الشارع من المكلف أن يكون قصده في العمل موافقا لقصد الله في التشريع”. (الموافقات، الشاطبي، 2\376)
إن هذا الفهم كان هو رائد الجهود المتواصلة لوضع قواعد التعامل مع الأحاديث المروية عن الرسول (ص)، وهي تطبيق لمقتضى تحذير نبوي من اختلالات في الفهم ستبرز في الأمة، فيقيض الله لها من يعالجها. ويرصد هذا البحث جهود العلماء المالكية في جانب واحد من جوانب الصرح الشامخ من مناهج فهم الحديث النبوي، إضافة إلى كونه نموذجا لتراكم المعرفة وتطويرها المستمر ترشيدا للعقل المسلم وتمكينا له من التنزيل الأمثل لرسالة الإسلام. (مقدمة الكتاب: ص: 9)
ويرجع اختيار العثماني مصطلح التصرفات النبوية بدل السنة النبوية، بالأساس إلى أن لفظ التصرف بدل لفظ السنة ناتج عن كون معنى “السنة” يحتاج إلى تدقيق نظرا لاختلاف استعمالاته بين العلماء. فيذهب كثير من الباحثين إلى أن تعريف السنة يختلف حسب التخصصات العلمية، فلكل تخصص استعمال معين للمصطلح حسب مقاصده وحاجاته.
ولتقريب مصطلح التصرفات النبوية رجح العثماني أن التصرفات النبوية هي “عموم التدابير القولية والفعلية والتقريرية التي صدرت عنه صلى الله عليه وسلم. (مقدمة الكتاب، ص: 10)
لقد اهتم الكثير من العلماء عبر القرون، وخصوصا منهم الأصوليين، بتصنيف التصرفات النبوية حسب دلالتها التشريعية انطلاقا من التمييز بين المقامات التي تصدر عنها، وأبدعوا في ذلك التصنيف وطوروه بشكل كبير، ووضعوا له القواعد والضوابط. وقد تميزت هذه المسيرة التاريخية بالثراء المنهجي والمعرفي لدى علماء الحديث والأصول. وتفيد دراستها في تسليط الضوء على الخطوات التي تراكمت تدريجيا لتصل إلى النضج الذي وصلت إليه في القرن السابع الهجري وما بعده. ومن تلك الجهود استفاد مجددو الفكر الإسلامي ورافعو راية الإصلاح الديني في العصر الحديث. وقد قام العثماني في دراسات سابقة باقتراح تصنيف عشري، يستفيد من مجموع تلك الجهود المتراكمة. (مقدمة الكتاب، ص: 13)
ولئن أسهم علماء وأصوليون من مختلف المذاهب والاتجاهات الأصولية والفقهية، في مسيرة التصنيف المنهجي للتصرفات النبوية، فإن أهم حلقاته نسجها علماء سابقون من أعلام المذهب المالكي في القديم والحديث. ويهدف سعد الدين العثماني في هذه الدراسة إلى الوقوف عند أهم حلقات ذلك الإسهام، مما يعتبر استحضاره واعتماده من أهم وسائل تصحيح العديد من الاختلالات التي شاعت اليوم في التعامل مع السنة النبوية. (مقدمة الكتاب، ص: 15)
وقد تضمن الكتاب بعد المقدمة، المحاور التالية: الإمام مالك وتأسيس المنهج، التصرفات النبوية الإرشادية عند المالكية، القاضي عياض رائد التمييز بين التصرفات النبوية، شهاب الدين القرافي وضبط الفرق بين التصرفات النبوية، عطاءات المالكية المعاصرين.
خاتمة
توصل الكاتب في خاتمة الكتاب إلى أن الإرهاصات الأولى لتصنيف التصرفات النبوية والتمييز بين أنواعها على أساس الدلالة التشريعية ظهرت بوضوح في فقه إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وأن علماء المذهب المالكي، على الرغم من كونهم في تفاعل مستمر مع الجهود المنهجية والمعرفية لعلماء كثر من مختلف المذاهب الفقهية والأصولية، إلا أن إسهاماتهم في التصنيف المنهجي للتصرفات النبوية كانت أكثر عمقا ودقة.
لقد اعتنى عالمان مالكيان هما: ابن عبد البر النمري وأبو العباس القرطبى بالتصرفات النبوية الإرشادية وحددوا حياتها وفصلوا في العديد من أمثلتها. ويعتبر العالمان المالكيان القاضي عياض اليحصبي وشهاب الدين القرافي من أهم من أبدع في تصنيف التصرفات النبوية والتمييز بين أنواعها.
وقد تراجع الاهتمام والتطوير في مجال تصنيف التصرفات النبوية انطلاقا من دلالتها التشريعية ابتداء من القرن التاسع، ولم تبرز إلا في العصر الحاضر، وكان محمد الطاهر بن عاشور واحدا من العلماء المعاصرين الذين أسهموا في ذلك التطوير.
إن الاطلاع على هذه المسيرة الغنية للتصنيف المنهجي للتصرفات النبوية يؤكد أصالة المحاولات المستمرة لتطوير مناهج فهم السنة، بغية بث فهم وسطي.
فإذا كان التمييز بين التصرفات النبوية يضع بين يدي الدارس للسنة النبوية معالم منهجية تفيد في القراءة السليمة لها، وتميز بين ما هو للتشريع وما ليس كذلك، فإن عدم الوعي بذلك التمييز يسهم بقوة في انتشار الفهم الظاهري والحرفي لأقوال النبي (ص) وأفعاله، ويفتح بالتالي باب التشدد والغلو في التعامل مع التصرفات النبوية .لذا أضحى من الضروري تصحيح الخلل بنشر البحوث والدراسات العلمية في الموضوع، وبث الوعي بتنوع التصرفات النبوية وقواعدها وضوابطها.