تقديم

يعد هذا الكتاب من بين المصنفات المغربية التي اهتمت بباب العلم وفضله وأهله، ودليلا على مدى اهتمام المغاربة بالعلم والمتعلمين وإصلاح مناهج التعليم على مر العصور، منذ أن ألف سحنون محمد بن عبد السلام بن سعيد (ت 256هـ) كتابه: “آداب المعلمين”، ومن جاء بعده مثل: أبي الحسن علي بن محمد القابسي (ت403هـ)؛ “الرسالة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين والمتعلمين”، وأبي عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي (ت463هـ)؛ “جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله”، وبدر الدين ابن جماعة (ت733هـ)؛ “تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم”، وأحمد بن أبي جمعة المغراوي (ت930هـ)؛ “جامع جوامع الاختصار والتبيان فيما يعرض للمعلمين وآباء الصبيان”، وأبو مسعود الحسن اليوسي (ت1102هـ)؛ “القانون في أحكام العلم والعالم والمتعلم”، هذا بالإضافة إلى كتاب: “مواهب المنان بما يتأكد على المعلمين تعليمه للصبيان” للسلطان محمد بن عبد الله العلوي (ت1204هـ)، وبعض المنظومات الشعرية في هذا الباب كمنظومة “سراج طلاب العلوم” للعربي بن عبد الله المساري (أو المستاري).. وغيرها من التآليف التي ترنو الاهتمام بعلوم التربية وأحوال العلماء والمتعلمين وذكر فضل العلم وأهله في الثقافة العربية والإسلامية.

التعريف بالمؤلِّف

هو الشيخ الفقيه الأديب، النحوي الأريب،  العالم العلامة، المشارك المحقق، أبو عبد الله محمد بن مسعود بن أحمد الطرنباطي الأموي العثماني نسبا، الأندلسي أصلا، الفاسي منشأ ودارا وقرارا، وكانت ولادته بفاس في بيت عريق،  تمتد جذوره إلى  عهد الخلافة الأموية  بالأندلس، وهو من أشهر بيوتات مدينة فاس القديمة. ومما جاء على لسانه في ترجمة نفسه قوله: “محمد بن مسعود بن أحمد بن محمد الطرنباطي الأموي العثماني الفاسي دارا ومنشئا”[1].

ولم تفد المصادر بإشارة إلى تاريخ ولادته، ويرجح أنه ولد في النصف الثاني من القرن الثاني عشر… وقد نشأ المترجم له في مدينة فاس، التي كانت يومئذ تعج بالعلم والعلماء، وترعرع ودرس وسمع على كثير من أهل العلم بفاس، نذكر منهم: محمد بن الطاهر الفاسي (ت.1177هـ) الإمام العالم والعمدة في العلوم الشرعية، وأبو زيد عبد الرحمن بن أبي العلاء إدريس المنجرة (ت.1179هـ) الإمام في القراءات، وأبو عبد الله محمد بن قاسم جسوس (ت.1182هـ) أبرز علماء فاس في عصره، وأبو عبد الله محمد بن محمد الخياط الدكالي (ت.1184هـ) العلامة المدرس، وأبو حفص عمر بن عبد الله الفاسي (ت.1188هـ) الذي تتلمذ عليه عدد لا يحصى من الطلبة، وأبو عبد الله محمد بن الحسن  بناني (ت.1194هـ) شيخ فاس وعالمها، وأبو محمد عبد الكريم بن علي بن عمر بن أبي بكر بن  إدريس اليازغي (ت.1199هـ) الفقيه الحافظ…

وتتلمذ على يديه كذلك ثلة من الأفراد تستقى أخبارهم من إشارات بعض كتب التراجم، وعلى رأسهم السلطان المولى سليمان العلوي (ت.1238هـ) الذي درس على الطرنباطي العربية والأدب والفقه، وأفاد منه علوما شتى، كما نجد منهم: أبا  حامد العربي  بن محمد الدمناتي (ت.1253هـ)، وأبا محمد عبد القادر بن أحمد بن أبي جيدة الكوهن (ت.1254هـ)..

وللطرنباطي آثار علمية ومؤلفات في مختلف أبواب العلم نذكر منها: “شرح على توحيد رسالة ابن أبي زيد القيرواني”، تأليف في البسملة بعنوان: “رشف الزلال من عين الحياة في مباحث في البسملة والحمدلة والصلاة”، وفي اللغة والنحو نذكر: “شرح خطبة ألفية ابن مالك”، و”تقييد في صور الفعل المؤكد بنون التوكيد”، و”إرشاد السالك إلى فهم ألفية ابن مالك”، وهو حاشية على الألفية. ثم كناشة في اثنتين وعشرين صفحة في مواضيع مختلفة في باب العلم وبعض الأخبار، وأخيرا الكتاب الذي نحن بصدد تعريفه، وهو: “بلوغ أقصى المرام في شرف العلم وما يتعلق به من الأحكام”.

وقد أثنى على مترجمنا الذي جمع علوم عصره معقولها ومنقولها وتوسع في ثقافته الشرعية، غير واحد من العلماء الذين ذكروا أنه كان على أخلاق عالية، متصفا بالصلاح والتقوى وصفاء السريرة، وهكذا حلاه محمد بن جعفر الكتاني بقوله: “الشيخ الفقيه الأديب، النحوي الأديب العالم العلامة المشارك المحقق الفهامة النفاع…”[2]، وذكر في موضع آخر قوله: “وكان رحمه الله ذا نية صالحة في تعليم العلم وبثه، مع المروءة التامة، مقبلا على شأنه، مشتغلا بما يعنيه، مليح الدعابة، ذا دين متين، وتقى مستبين”[3].

وكانت وفاته -رحمه الله-  يوم الإثنين 6 محرم سنة (1214هـ)، ودفن بمقبرة المنجريين، قرب روضة سيدي رضوان، خارج باب الفتوح بمدينة فاس.

تقديم الكتاب

 تجمع كتب التراجم والأعلام على نسبة كتاب “بلوغ أقصى المرام في شرف العلم وما يتعلق به من الأحكام” للطرنباطي، كما ورد في مقدمة الكتاب بقول المؤلف: “لكن لما علمت أن السائل متعطش لما ذكر، أجبته بما تيسر وحضر…”[4]، وهو ما يتأكد كذلك من تحرير ختم القيد الذي ذكر فيه قوله: “ووافق الفراغ منه صبيحة يوم الأحد الثامن من شهر صفر سنة أربع وثمانين ومائة وألف، على يد مؤلفه وكاتبه… محمد بن مسعود بن أحمد بن محمد الطرنباطي.. كان الله له ولوالديه ولأشياخه ولجميع المسلمين” (الكتاب ص 464).

وقد ألف أبو عبد الله الطرنباطي ـ رحمه الله ـ هذا الكتاب بطلب وإيعاز من مجموعة من طلاب العلم، يقول في مقدمة كتابه: “فإن بعض الأحبة ممن خلص لي وده، وصعب عليَّ فيما طلب مني رده، وطلب مني أن أجمع له شيئا من فضائل العلم والعلماء؛ لتنبعث النفوس إلى طلبه وتحصيله، إذا سمعت ما أعده الله لأهله.. وإن كنت لست أهلا لهذا الأمر في عير ولا نفير…” (الكتاب ص 223).

وهكذا رتب كتابه – رحمه الله- على مقدمة، وخمسة أبواب، وخاتمة.

المقدمة:

نستطلع منها غرض المؤلف من تأليف كتاب في شرف العلم وفضله وأحوال العلماء والمتعلمين من خلال قوله: “فإن بعض الأحبة ممن خلص وده، وصعب علي فيما طلب مني رده، وطلب مني أن أجمع له شيئا من فضائل العلم والعلماء لتنبعث النفوس إلى طلبه وتحصيله…” (الكتاب ص 223)، فالغرض الأساس لهذا التأليف هو وضع تأليف في فضل العلم وأهله، بناء على طلب بعض معارفه.

ثم تحدث فيها عن أقسام العلوم، وسبب وضعها، مقسما العلم على قسمين: قديم وحادث، فالقديم لا يحد كما ذهب إلى ذلك الغزالي، وهو غير منقسم، أما الحادث: فقسمه إلى قسمين: ضروري ونظري، فالضروري هو ما لا يتوقف فيه على النظر، والنظري هو الحاصل بالكسب والطلب، أي؛ ما كان طريقه الاستدلال والنظر.

وقد فصل المؤلف في أنواع العلوم التي حدثت بعد نزول الوحي؛ والتي جاءت وفق ما احتاج إليه الناس في ذلك، يقول المؤلف:

  • ولما أحس عمر – رضي الله عنه- أن فهم الكتاب والسنة يحتاج إلى موصل لما فيها من دقائق الإشارات وغرائب العبارات، حض على رواية الشعر وتعلمه…
  • ولما خشي عثمان – رضي الله عنه- اختلاف الناس، جمع القرآن في المصاحف، لعلمه أن ذلك وسيلة إلى ضبطه وارتفاع النزاع فيه…
  • ولما علم مهرة الصحابة والتابعين أن ليس كل أحد يقوم بفهم معاني القرآن، اشتغلوا بتفسيره ودونوا التفاسير نصحا لمن بعدهم، ودونوا الأحاديث النبوية…
  • ولما كان ما ينقل من الأحاديث ليس كله متواترا ولا متفقا على صحته… احتاج أئمة الدين إلى تمييز المعمول به من غيره… أحدثوا صناعة الحديث…) (الكتاب ص 232-233). وهكذا كلما دعت الحاجة لفهم ما ورد في الكتاب والسنة من أحكام وتوجيهات، أحدثوا ما يناسبه من العلوم، فنشأ الفقه والأصول وعلم الكلام والمنطق والبلاغة والهيئة والحساب وغير ذلك من العلوم..

ثم ختم هذه المقدمة بالحث على طلب العلم وفق التوجيه النبوي في ذلك قائلا: “اعلم أن طلب العلم والتفقه في الدين من فروض الكفاية كالجهاد، أوجبه الله على الجملة فقال: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) [التوبة/123]، و(من) للتبعيض، فإذا قام به بعض الناس سقط التكليف عن الباقين، إلا ما لا يسع إنسان جهله من صفة وضوئه وصلاته وصيامه وزكاته… فإن ذلك واجب عليه؛ وهو من فروض الأعيان لا من فروض الكفايات” (الكتاب ص: 237).

الباب الأول، في فضل العلم:

تناول فيه فضل العلم وشرفه، قائلا: “أما فضل العلم وشرفه فكبير والكلام فيه كثير، ولنأت منه بالنزر اليسير…” (الكتاب ص: 245). وقد استدل بكثير من الشواهد لعلماء الملة على ذلك، فأورد نصا للفخر الرازي، بيَّن فيه الشواهد العقلية التي تؤيد ذلك، ثم أتبعها بالشواهد النقلية من عدد من الآيات القرآنية التي تحض على العلم وترفع من شأن العلماء وذكر أقوال العلماء في تفسيرها وتوضيحها.

الباب الثاني، في فضل العلماء وما يجب لهم من التعظيم:

تناول فيه تفضيل الله تعالى لأولي العلم، وبيان المكانة الرفيعة التي امتازوا بها، مستدلا عليها بالكثير من نصوص الآيات القرآنية كقوله تعالى: (كونوا ربانيين)[آل عمران/78] التي قال فيها ابن عباس: فقهاء متعلمين، وعدد من الأحاديث النبوية كما في قوله عليه السلام: “فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم” ومأثور علماء الأمة المنوهة بهم والمعظمة لهم.

الباب الثالث، في التحذير من قراءة العلم لغير الله:

خصصه للتحذير من قراءة العلم لغير وجه الله، وما جاء في ذلك من الوعيد؛ موردا عددا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال العلماء في تفسير هذه النصوص، معتبرا أن أول ما يجب على طالب العلم أن يتزود به هو الإخلاص لله سبحانه وتعالى في هذا الطلب قولا وعملا، مصداقا لقول الرسول الكريم: “من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار” (الكتاب ص: 338).

الباب الرابع، فيما يتعلق بآداب المعلمين:

وهي كثيرة – كما قال- مستندا في ذلك على نص من شرح الرسالة لداود المصري ومن أهمها:

  • أن يقصد بعلمه وجه الله، وأن يتخلق بالصفات الجميلة والخلال الحميدة والشيم المرضية التي ورد الشرع بها…
  • ملازمة الورع والخشوع والسكينة والوقار والتواضع لأهل الديانة من العلماء العاملين…
  • مجانبة العوام ما أمكن إلا لمنفعة دينية، أو مرجوة من تعليم مسألة، أو إرشاد إلى فعل خير ونحو ذلك.
  • اجتناب الضحك والإكثار من المزاح…
  • ملازمة الآداب الشرعية الظاهرة والخفية؛ كالتنظيف…
  • اجتناب الرياء والحسد والإعجاب واحتقار الناس…
  • دوام مراقبة الله عز وجل في السر والعلن…
  • عدم الاستنكاف عن التعلم ممن هو دونه…

وغير ذلك من الأمور المتوخاة في سبيل طلب العلم وطريقة تعليمه للناس.

الباب الخامس، في ذكر ما يتعلق بآداب المتعلمين:

ومن الآداب الواردة فيه، كما قال النووي: “أن ينظر إلى معلمه بعين الاحترام، ويعتقد رجحانه على أكثر طبقته…” (الكتاب ص: 405)، وفي هذا النص على طوله آداب وتوجيهات تربوية فريدة يحسن الرجوع إليها لكل طالب علم ليحسن بدوره أحواله في مجلس العلم والتلقي؛ من التأدب مع الأقران في المجالس، وعدم رفع الصوت من غير حاجة أو يكثر من الكلام فيما لا فائدة منه، وأن لا يسبق معلمه إلى شرح مسألة أو جواب على سؤال أو يراجع شيخه إلا بقصد الفهم… وغير ذلك من التوجيهات التربوية المفيدة.

خاتمة الكتاب:

خصصها الشيخ الطرنباطي لآفة العلم في آخر الزمان برفعه، مبتدئا فيه شرح الحديث الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “يا أيها الناس خذوا العلم قبل أن يقبض وقبل أن يرفع من الأرض”[5]، مع إيراد جملة من الأحاديث في هذا الباب، طالبا من الله تعالى أن يختم له بالحسنى، وأن يكرم هذا العمل بالقبول قائلا: “اللهم اجعلنا من العلماء العاملين واحشرنا في زمرتهم آمين… (الكتاب ص: 463).

خاتمة

الكتاب قيم في بابه، ومفيد في موضوعه، وهو إضافة نوعية لما سبقه من مؤلفات في موضوع طلب العلم وآداب المتعلمين، ينبي عن جهد مشكور للعلامة أبي عبد الله الطرنباطي، والذي أصبح بتأليفه هذا مرجعا في هذا الباب، لما تضمنه الكتاب من جمع للشواهد النقلية والتحريرات العقلية.

المراجع
[1] انظر ترجمته في: سلوة الأنفاس: 2/302ـ203، معجم طبقات المؤلفين على عهد دولة العلويين: 2/259، معجم المطبوعات المغربية: 212، بلوغ أقصى المرام: 464.
[2] سلوة الأنفاس: 2/268.
[3] سلوة الأنفاس: 2/302.
[4]  أبي عبد الله محمد ابن مسعود الطرنباطي، "بلوغ أقصى المرام في شرف العلم وما يتعلق به من الأحكام"، الرابطة المحمدية للعلماء بتحقيق: د.عبد الله رمضاني، منشورات مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، ط/1-2008، ص: 223.
[5] رواه أحمد في مسنده، ح: 21259، انظر الكتاب، ص: 461.