بين يدي التقديم

تنوعت الدراسات والأبحاث التي تناولت التراث الفكري المغربي، وتسلحت بمناهج وأدوات للكشف عن ذخائره ودرره، وتعددت زوايا نظر الباحثين في هذا الكشف بتعدد مدارسهم وتخصصاتهم، قراءة وفهما، ودراسة وضبطا، وتحقيقا ونشرا، فكانت إصدارات لمغاربة وأجانب نذكر منها: “فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب” للدكتور عبد المجيد النجار، “الإنتاج الفكري الإباضي بالمغرب الإسلامي خلال القرنين 2 و4هـ/ 8 و10م” لمصطفى كربوش،  “قضايا في الفكر الإسلامي” لعلي الإدريسي وغيرها كثير. ولم تُحط هذه المساهمات بهذا التراث، ولا أُغلق باب الاجتهاد في وجه فرص أخرى للتعاطي معه، بل بقي الباب مفتوحا أمام محاولات أخرى، إلى أن جاءت مساهمة الدكتور عباس الجيراري “بحوث مغربية في الفكر الإسلامي” موضوع هذا التقديم، والتي سيؤسس من خلالها لنهج جديد في التعامل مع هذا الفكر الإسلامي وفق رؤية خاصة، وفي ارتباط مع الشخصية المغربية بكل مقوماتها وخصائصها وسماتها.

تقديم الكاتب

ولد عباس الجيراري في 15 فبراير 1937 بالرباط، نشأ وترعرع في بيت علم وفضل، فوالده عبد الجيراري واحد من علماء المغرب الكبار، تلقى عباس الجيراري تعليمه الأولي في الكتاب القرآني، ثم التحق بالمدارس الحكومية مدرسة أبناء الأعيان – ثانوية الليمون – ثانوية مولاي يوسف. ثم سافر إلى القاهرة لمواصلة تعليمه العالي، وبها حصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها سنة 1931، وعلى الماجستير سنة 1965، وفي سنة 1965، أحرز على دكتوراه الدولة في الآداب من الجامعة نفسها. اشتغل لعقود أستاذا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط.

له مؤلفات عديدة منها: القصيدة. الزجل في المغرب (1970) – الحرية والأدب (1971) – الثقافة في معركة التغيير (1972)- موشحات مغربية (1973) – الأمير الشاعر أبو عبد الربيع سليمان الموحدي (1974) – من أدب الدعوة الإسلامية (1974) – في الشعر السياسي – قضية فلسطين في الشعر المغربي حتى حرب رمضان (1975) – وحدة المغرب المذهبية من خلال التاريخ (1986) – صفحات دراسية من القديم والحديث (1977) – فنية التعبير في شعر ابن زيدون (1977) – ثقافة الصحراء (1978) – معجم مصطلحات الملحون الفنية (1978) – الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه (1979) – الفكر الإسلامي والاختيار الصعب (1979) – عبقرية اليوسي (1981) – أثر الأندلس على أوروبا في مجال النغم والإيقاع (1982) – الفكر والوحدة (1984) – معركة وادي المخازن في الأدب المغربي (1985) – العالم المجاهد عبد الله بن العباس الجراري (1985) – بحوث مغربية في الفكر الإسلامي (1988) – في الإبداع الشعبي (1988) – خطاب المنهج (1990).

أما الأوسمة والجوائز فكثيرة نذكر منها: وسام الاستحقاق من مصر (1965)-  وسام العرش من درجة فارس (المغرب 1980) – وسام المؤرخ العربي  (1987)- ميدالية أكاديمية المملكة المغربية (1990) – جائزة الاستحقاق الكبرى (المغرب 1992) – وسام العرش من درجة ضابط (المغرب 1994) – وسام الكفاءة الوطنية من درجة قائد (المغرب 1996) – وسام الجمهورية من الطبقة الأولى من تونس  (2000) – وسام العرش من درجة قائد (المغرب 2000) – وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى (جمهورية مصر العربية- 2004) – وسام الإيسيسكو من الدرجة الأولى (2006).

تقديم الكتاب

صدر كتاب “بحوث مغربية في الفكر الإسلامي” عن مطبعة المعارف – الرباط في طبعته الأولى سنة 1988م في سفر واحد من 191 صفحة من القطع المتوسط، وجاء الكتاب في سياق تنامي السؤال عن مدى حضور الفكر الإسلامي الإسلامي وقوته، وارتباطه بمقومات الشخصية المغربية.

ويضم الكتاب بعد التقديم – بحوثا تحت العناوين التالية: فلسفة نظام الحكم في الإسلام وأهمية البيعة – أسباب انتشار المذهب المالكي في المغرب – الدين في وسطيته وتجديده وسياق الشخصية المغربية – موقف الغزالي عن إشكالية التوفيق بين المحكمة والشريعة – استخلاص التصور السليم لمعاملة غير المسلمين في ديار الإسلام في الوقت الحاضر – خطبة الجمعة وقضايا الفكر الإسلامي.

  • في المقدمة، لمّح الأستاذ الجراري إلى الغاية من جمع هذه البحوث قائلا: “حاولت أن أوضح جوانب من الفكر الإسلامي، فيما يرتبط منه بالتراث أو ما يمس الواقع، وهي جوانب تعكس منظورا مغربيا أغناها باستمرار وما زال يغنيها” وهي عبارات تلخص منهج الجراري في التعاطي مع القضايا المطروقة في كتابه، والقائم أساسا على محاولة الكشف أولا عن قوة الفكر الإسلامي – وبالتبع المغربي – وقدرته على مواكبة مستجدات العصر.
  • في البحث الأول: بخصوص الجدل القائم حول الخلافة، ذكّر الجراري بمبادئ أساسية في المنظومة السياسية الإسلامية وهي التوحيد والعدل والمساواة ثم الشورى، وأن الخلافة إنما جاءت لسد الفراغ الذي حصل بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تعقب الخلاف بين الفقهاء بخصوص هذه المسألة. وعالج مسألة البيعة وطرح بعض حيثياتها ومتعلقاتها. مع ذكر الشروط الواجب توفرها في الخليفة، ومتى تجب طاعته ونصرته أو الخروج عليه. ثم يشير إلى الخاصية التي تميز بها المغرب قائلا: «فالمتتبع للتاريخ الإسلامي في المغرب ينتبه إلى بعض الظواهر التي لازمت نظام الحكم فيه، على الرغم من تعدد الدول التي تعاقبت عليه»، ثم يفصل في متعلقات البيعة ودورها في استتباب الأمن…
  • أما البحث الثاني: فيتناول فيه “أسباب انتشار المذهب المالكي في المغرب” والبحث في أصله درس حسني ألقاه سنة 1985. وقد طأ له بالحديث النبوي الشريف “يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل في طلب العلم، فلا يجدون عالما أعلم من عالم المدينة”. وأوضح فيه الأسباب الداخلية والخارجية لاختيار المغاربة المذهب المالكي، ثم توقّف مطولا عند خصائص هذا المذهب وبعض مميزاته في ارتباط مع مقومات الشخصية المغربية، التي ساهمت في التمسك به.
  • وفي البحث الثالث: تحدث الأستاذ عن “الدين في وسطيته وتجديده وسياق الشخصية المغربية” انطلاقا من قوله صلى الله عليه وسلم: “لا يزال أهل المغرب ظاهرين حتى تقوم الساعة…” وهو أيضا درس حسني شارك به الأستاذ في شهر رمضان لعام 1986. والبحث يقوم على محورين اثنين: الأول: عن الشخصية في سياقها مع الدين… والثاني: الميل عند المغاربة إلى الوسطية والاستعداد للتجديد. ويخلص في نهاية الدرس إلى أن الشخصية المغربية ذات “هوية مغربية عربية إسلامية متماسكة لا تعرف التمزق أو التصدع منذ الفتح الإسلامي إلى المرحلة الحديثة” ومن خصائصها: الاعتدال وعدم التطرف – التقرب إلى الله وخشيته والاحتراز في العمل والسلوك – تهذيب الغرائز والطبائع وتقويم الضمير الفردي، وتقريبه بوعي للضمير الجمعي – الرضى والقناعة والقدرة على تجاوز تناقضات الواقع – عدم الانشغال بالغيب في اطمئنان لما أخبر الله له، مع الاستعداد للعالم الآخر ويوم الحساب.
  • أما الموضوع الرابع: “موقف الغزالي عن إشكالية التوفيق بين المحكمة والشريعة”، فهو بحث شارك به الأستاذ الجراري في الدورة الثانية لأكاديمية المملكة المغربية لسنة 1985. وفيه اعتبر أن عصر الغزالي يطبعه أمران: الأول أنه من أغنى عصور الفكر الإسلامي وأخصبها، والثاني: أنه عرف صراعا بين تيارات ومذاهب تولد عنها قضايا فكرية احتد حولها النقاش، وعلى رأسها إشكال التوفيق بين العقل والنقل. وكيف تعامل الغزالي وغيره من الفلاسفة المسلمين مع هذه الإشكالية، مع الاستفاضة في الحديث عن منهج الغزالي القائم على الشك. “من لم يشك لم ينظر. ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمة والضلال”. مبرزا أن الغزالي كان يهدف إلى تحقيق أهداف ثلاثة: الأول: مراجعة الفلاسفة المسلمين في تناولهم لقضية التوفيق بين الدين والفلسفة، الثاني: تحصين عقيدة العوام، الثالث: إزالة ما كان للفلاسفة من مكانة في نفوس البعض.. لينتهي إلى أن الغزالي فتح الباب لفكر إسلامي جديد، يجمع بين الفلسفة والتصوف، مما فتح عليه باب الانتقاد، وخاصة من معاصريه: محمد بن الوليد الطرطوشي وتقي الدين أحمد بن تيمية وغيرهما، لكن الأستاذ الجراري يرى أنه “مهما يكن، فقد عمل الغزالي على إقامة كيان فكري فلسفي إسلامي..”.
  • أما البحث الخامس والأخير: فهو في موضوع “استخلاص التصور السليم لمعاملة غير المسلمين في ديار الإسلام في الوقت الحاضر”، والبحث كتبه تلبية لطلب المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بالأردن عام 1984. في البداية حدد الأستاذ المفاهيم الواردة في العنوان، وبعد حديث عن المواطنة، يخلص إلى أن الإسلام “رسالة إنسانية سامية تبدأ من الدعوة إلى التوحيد، وتنتهي إلى التبشير بالوحدة التي ينصهر داخل بوتقتها كل الناس، تحقيقا للعدل والمساواة والحرية والطمأنينة والسعادة والكرامة”. وبذلك فهي تسع كل الأفراد والجماعات الذين تربطهم رابطة الروح والفكر والثقافة والقيم والتقاليد وأساليب الاستثمار والإنتاج وأنماط العيش والسلوك. ويرى الأستاذ الجراري أن المواطنة “تقتضي أربعة أسس وهي: المساواة والحرية والهوية والتنمية، معتبرا أن مواطنة من هذا النوع كفيلة بضمان الوحدة في ديار الإسلام، بدءا من الفرد إلى الدولة مرورا بالأسرة والمدرسة وغيرها من الأجهزة والمؤسسات وما يلهم بينهما من علاقات وروابط قائمة على قواعد وقوانين وأعراف..” ثم عالج مسألة الأقلية خاصة تلك التي تكون على صعيد العقيدة والدين.

ثم ختم بلفت الانتباه إلى المؤامرات التي تدبر للمسلمين، وهي مؤامرات تسعى إلى تجريد الفكر الإسلامي من مفاهيم الدولة والوحدة… وترسيخ الانفصالية والعرقية والطائفية والعشرية.. حتى يسهل فرض الهيمنة على ديار المسلمين..”مذكّر بمحاولات الاستعمار التركيز على الأقليات الدينية والجنسية واللغوية لعزلها وضرب الأغلبية بها”. محذرا من السقوط في فخ “إحياء النزاعات القبلية والنعرات العنصرية والخلافات الدينية، لتكريس التشتت والتمزق داخل الكيانات الوطنية…”.

  • أما البحث الأخير فتحت عنوان: “خطبة الجمعة وقضايا الفكر الإسلامي”، وهو بحث قدمه في الملتقى العالمي الأول بخطباء الجمعة في المغرب المنعقد بفاس سنة 1987. وتحدث في بدايته عن الخطابة وكيف ازدهر عند العرب، ثم تحدث عن خصائصها في الجاهلية والإسلام حيث صارت فعاليتها قوية في نشر الدعوة، ثم توقّف عند أنواع الخطابة، وبعض سمات الخطابة الإسلامية. ليستفيض في الحديث عن خطبة الجمعة التي “تتطلع اليوم إلى أن تسترجع مكانتها” مذكرا بما ينتظر الخطيب أمام التطور الفكري والإيديولوجي وانتشار روح التشكيك والإلحاد، داعيا الخطيب  إلى “أن يعرف بحقيقة الفكر الإسلامي في مختلف قضاياه – أصولا وتاريخا وواقعا وآفاق مستقبل – مع الإلحاح على خصوصياته ومميزاته..” داعيا الخطيب إلى “العناية بخطبته موضوعا ومحتوى وصياغة وإلقاء..”.

على سبيل الختم

لقد عودنا الدكتور عباس الجراري في كتاباته على قدرة فائقة على التجديد في تناول القضايا والتعاطي معها، سواء منها الأدبية أو النقدية أو التاريخية أو الفنية، وفي ثنايا هذا الكتاب نتلمس نفس القدرة القائمة على الرصانة في الطرح، والبراعة الفائقة في التعبير. رحم الله السي عباس الجراري وتقبل منه جهاد الكلمة. آمين