توطئة

منذ أن تحدث بلولير عام 1911م عن الانسحاب الاجتماعي لدى بعض المصابين بالفصام الطفولي، ومنذ أن أطلق ليو كانر لفظة التوحد عام 1943م على مجموعة من الأطفال مصابة بالتخلف العقلى عندما وجد أن سلوكهم يتميز بالانغلاق الكامل عن الذات والانعزال عن كل ما حولهم حتى أقرب من يحيطون بهم “وهذا يختلف بالطبع عن سلوك ذوي الإعاقة الذهنية”، أصبحت لفظة الطفل التوحدي أو الذاتوي من أهم المصطلحات المستخدمة في عدة مجالات منها علم النفس والتربية الخاصة مع تشعبها ومجال الطب النفسي والتغذية. وتؤكد التقارير العالمية أن حول العالم 67 مليون شخص يعانون من اضطراب التوحد.

والمؤكد عدم وجود اتفاق من قبل المختصين حول الأسباب المؤدية للتوحد، ولذا يواجه كل من يعمل مع التوحد معضلة التشخيص. وقد ظهرت العديد من النظريات والدراسات التي تفسر حدوث التوحد ولكنها بالرغم من كثرتها إلا أنها تفتقد لمبدأ التعميم، فقد تصدق النظرية التفسيرية وتقدم سبباً واضحاً على بعض أطفال التوحد، ولكنها تصبح خاطئة تماماً على بعض الأطفال الآخرين.

فعندما خلصت الباحثة الأسترالية “هولي بريدجس” إلى أن “التوحد حير الجميع”، واستدرك “بيتر فيرمولان” على الجدول المصاغ سنة 1996م، الذي يضم لائحة تشمل عناصر القوة لدى التوحديين وغير التوحديين، مما أثار حيرة كبيرة عند المتخصصين، فإن أسباب هذه الحيرة لا ترجع فقط إلى طبيعة الاضطراب نفسه ومصدره، أو إلى ارتباطه باضطرابات أخرى ذهنية وتعلمية، أسهمت في جعل التشخيص الدقيق مهمة صعبة، وإنما لكون الساحة العلمية والإكلينيكية تعج بالعديد من البرامج والمقاربات التي تفاخر كل واحدة منها بأنها تحمل في طياتها الفهم الأدق لاضطراب التوحد والعلاج الأوحد له، مما ينعكس على نفسية الآباء بموجات من الضغط النفسي والآمال والترقبات والإحباطات.

ومما يزيد الأمر تعقيدا أن اضطراب التوحد درس وتُنُووِل من زاوية المربين والأطباء والآباء، إلا أن هناك منظورا آخر لم يعره الناس اهتماما قليلا أو كبيرا، وهو المنظور التوحدي للتوحد كيف ينظر المتوحد إلى اضطرابه؟ ما هي حدود الائتلاف والاختلاف بين منظوره وبقية المنظورات؟ هل استطاع المتوحد أن يقدم صورة دقيقة عن طبيعة الاضطراب وأعراضه وخصائصه؟ هل قدم معطيات يمكن أن تمثل لبنات محورية في صياغة برامج تدخلية واستراتيجيات تأهيلية؟ هل المنظور التوحدي هو إقصاء للمنظورات الأخرى أم حوار معها لمصلحة حاجيات الطفل التوحدي وإمكاناته؟ وهل تقف الأبحاث العلمية والتجارب الإكلينيكية سندا لذلك المنظور أم إنه يفتقر إلى الشروط العلمية المطلوبة؟. (الكتاب، ص: 12/11)

ولتجلية بعضا من إشكاليات الموضوع تقدم “دائرة الوعي السيكولوجي” إلى القراء والمهتمين إصدارها الأول في موضوع “المنظور التوحدي للتوحد” للباحث الدكتور محمد إقبال عروي، والذي يحمل عنوان “المنظور التوحدي للتوحد؛ دراسة في الأسس النظرية وشروط التدخل”.

إشكالية البحث

انطلق المؤلف في التنبيه إلى المقاربات التدخلية التي تسطر برنامجا تكفليا تأهيليا لفائدة الطفل التوحدي، حيث يلاحظ أنها صيغت من قبل جهات تتميز بكونها “سوية” لا تعاني من ذلك الاضطراب، أو باعتبارها تملك “السلطة المعرفية العالمة” للحديث عن الإضطراب التوحدي. هذا الأخير الذي لا حول له ولا قوة، والذي يعتقد فيه أنه “كل” على أهله ومحيطه، لا يؤمل فيه أن يأتي برأي سديد أو معرفة سليمة، وهو الذي يوصف بأنه “المضطرب” “غير السوي”، إذ أن فاقد الشيء، وفق هذا المنظور المعرفي السلطوي، لا يعطيه.

وبالتالي، فالمنظور المعرفي “العالم” يراهن على أن طرائقه ومنظوراته هي التي ستكون الأنسب والأوفق، باعتبار أن الطفل التوحدي ينظر إليه على أنه غير مستقل، وأنه عاجز عن أن يتخلص من العديد من أعراض التوحد إلا بمساعدة الآخرين، فكيف له أن يصوغ رؤية للموضوع، فضلا عن أن ينجز اقتراحات تعلمية تكيفية.

بل إن خطابا ينتشر في الأوساط الجامعية يذهب إلى اعتبار التوحد مرضا، ليخلص المؤلف  إلى القول إن التوحد مرض، فكيف يستقيم هذا المذهب مع المنظور التوحدي للتوحد؟ وكيف يجيز الباحثون “الأسوياء”، ممتلكو السلطة المعرفية، أكاديميا ووظيفيا، لأنفسهم بأن يحكموا على ذلك الاضطراب، بتعبير الهيئات العلمية نفسها، دون الاستماع إلى خطاب التوحديين أنفسهم؟.

ولعل هذا التوجه المسيطر هو الذي يفسر غياب الإشارة إلى منظور التوحدي لأي مقاربة أو استراتيجية، فتظل الساحة فقيرة إلى ذلك المنظور، خاصة إذا كانت له وجهة نظر سلبية تجاه المنظور غير التوحدي له، أو تجاه بعض المقاربات والتقنيات. (الكتاب، ص: 14/13)

ويعرض محمد إقبال عروي، لرؤية الباحثة “أولغا بوغدا شيئا”” (Olga Bogdashina) التي أنفقت جهدا ملحوظا، أكاديميا ونضاليا، من أجل لفت نظر المحيط العلمي الأكاديمي إلى أهمية المنظور التوحدي، وأشارت إلى التعبير القاسي الذي استعمله “بوب موريس” (Bob Morris) في حق تجاهل المعرفة التي يمكن أن يمدنا بها التوحديون لإدراك دقيق بحالتهم، وهو تعبير “الخطيئة الأصلية”، والمقصود به السعي إلى إعادة بناء عالم التوحد باستعمال المناهج ووجهات النظر غير التوحدية.

وقد أتيح للمؤلف الاطلاع على بعض الكتابات المنجزة من قبل باحثين وعلماء مصابين بـ”اضطراب” التوحد، غير أنهم استطاعوا تحويل أوضاعهم إلى موضوع للدراسة والتأمل، وكشفوا عن معطيات دالة سواء على مستوى فهم طبيعة الطفل التوحدي، وبيان خصائصه العقلية والنفسية والاجتماعية، أو على مستوى تقديم مقترحات لكيفية التعامل معه في مختلف تعلماته وتطوير مهاراته ومكتسباته اللغوية والتواصلية والحركية والاجتماعية.

وفي هذا السياق، تقف مؤلفات المساعدة الاجتماعية الكندية “برجيت هارسون” وأستاذة علوم الحيوان الأمريكية “تاميل جواندن” والعالم النورولوجي الأمريكي “دافيد راولند”، وأستاذ الفلسفة التشيكيي الفرنسي “جوسيف تشوفانيك”، والكاتبة الأسترالية “دونا ويليامر” علامة بارزة في هذا التيار التوحدي. وقد كشفت إنتاجاتهم على أنها قابلة لأن تكون أرضية الإثارة مجموعة من الإشكالات، في مقدمتها: ما هو مفهوم التوحد لدى هؤلاء التوحديين؟ كيف ينظر هؤلاء إلى طبيعة التوحد وأعراضه ؟ هل يمتلكون رؤية موحدة لتفسير أسباب التوحد؟ أم أن لكل واحد منهم تفسيرا لذلك الاضطراب؟ ما الذي يعتقده هؤلاء في نظرة الهيئات العلمية والطبية التي تتبنى أطروحات المنظمة الأمريكية للطب النفسي؟ وما الذي يستدركونه على المقاربات العلاجية المنتشرة والتي يسوق لها هنا وهناك؟ هل يمتلك هذا المنظور أسسا علمية قابلة لأن تترجم في شكل استراتيجيات واضحة وفعالة في التدخل لتأهيل الأطفال ذوي التوحد؟ ما هو موقع الأبحاث المنجزة في حقل العلوم العصبية وتكنولوجيا المسح الدماغي في ذلك المنظور؟ هل يسعى المنظور التوحدي إلى إقصاء المنظورات في حياة المتوحد ويعزز إمكاناته الأخرى؟ أم إنه مدرك لحتمية التعاون بينها بما يحقق الجودة؟. (الكتاب، ص: 17/16)

منهجية البحث

لقد أضحى من كلاسيكيات البحث العلمي القول إن طبيعة الموضوع هي التي تحدد منهج البحث، وذلك لاعتبارات تتصل بضرورة انسجام مخرجات أي دراسة مع مدخلاتها النظرية وحدودها الموضوعية وإشكالاتها المعرفية والتطبيقية.

وبما أن موضوع “المنظور التوحدي للتوحد” يرتبط أساسا بتجلية عناصر ذلك المنظور في بعده التاريخي والفلسفي والإكلينيكي، وبيان المؤتلف والمختلف بينه وبين باقي المنظورات المتداولة في الساحة التنظيرية والتدخلات العلاجية، فقد اقتضى الأمر التحرر من إكراهات المناهج الكمية والكيفية باعتبار أن الموضوع ينجز “حفريات” في البناء المعرفي والرؤيوي، ويغوص في طبيعة الشروط السابقة عن أي ميل منهجي كمي أو كيفي. وبالتالي فقد ارتأت الدراسة الاستعانة بـ “مزيج” يتمتع بالخصائص المنهجية الآتية : جمع المادة، ومرحلة التصنيف، والتناول التاريخي، ومرحلة التحليل والنقد. وبهذا، يمكن القول إن المنهج المتبع في هذه الدراسة استنادا إلى خصوصيتها النظرية، قد أخذ من الوصف والتحليل والنقد والقراءة التاريخية ما يساعده على أن يكون قادرا على رسم صورة واضحة المعالم عن المنظور التوحدي للتوحد. (الكتاب، ص: 23/24/25)

مضامين الكتاب

يقع الكتاب في 249 صفحة، وصدر عن مكتبة سلمى الثقافية، ومطبعة الحمامة، دائرة الوعي السيكولوجي. ويضم بين دفتيه: المدخل المفاهيمي: بسط فيه بسطا معرفيا اصطلاحيا لمفهوم المنظور التوحدي للتوحد وشروط التدخل من أجل صياغة الأسس النظرية والتطبيقية للمقاربات الملائمة. ووضع للفصل الأول عنوان: الأسس النظرية للمنظور التوحدي للتوحد، والذي يتكون من مبحثين وعدة مطالب. أما الفصل الثاني يفقد عنونه ب: شروط التدخل من أجل بناء مقاربة علاجية شمولية، ويضم بدوره مبحثين وعدة مطالب. ثم خاتمة، وقف فيها على أهم الخلاصات، وصاغ فيها بعض المقترحات التي يمكنها أن تمهد لفتح آفاق بحثية في موضوع المنظور التوحدي للتوحد.

خاتمة

خلص البحث إلى الخلاصات الآتية:

  • تقديم مفهوم راصد للمنظور التوحدي للتوحد، مع بيان آليات اشتغال ذلك المنظور، وحدود الائتلاف والاختلاف بينه وبين المنظورات الحاكمة لرؤية المربين والآباء والمختصين. وقد انتهى المفهوم إلى أن التوحد ليس مرضا، وإنما هو اضطراب نمائي يعكس خصوصية اشتغال شبكة الارتباطات النورونية داخل الدماغ.
  • رسم البحث مسارا تاريخيا مختصرا لوضعية التشخيص المرتبط بالتوحد.
  • رصدت الدراسة مجموعة من الخصوصيات التي ترتبط ارتباطا بنيويا بالدماغ التوحدي، والتي يشترك فيها جميع التوحديين بالرغم من أن المبدأ الدقيق العام هو أن كل توحدي يمثل حالة خاصة لا تتكرر مع أقرانه.
  • وفي هذا السياق، ركز البحث على إبراز خصوصيات الإدراك الحسي لدى التوحدي، ولفت النظر، استنادا إلى معطيات مصرح بها من قبل متوحدين أنفسهم.
  • عرض البحث لخاصية أخرى تتمثل في هيمنة التفكير البصري لدى الطفل التوحدي.
  • كما عرضت الدراسة لخاصية أخرى تميز الدماغ التوحدي، وإن لم يرد لها ذكر في الأدلة التشخيصية المعتبرة، وهي فرط التركيز.
  • واهتمت الدراسة بإثارة إشكالية الشروط التي يتعين أخذها بعين الاعتبار بين يدي إنجاز أي مقاربة علاجية أو تدخل إكلينيكي، وقسمت تلك الشروط إلى شروط علمية بيداغوجية وأخرى مجتمعية.

هذه باختصار شديد أهم الخلاصات التي راكمتها الدراسة في بنائها العام وهي خلاصات تفتح أفاق البحث على معطى جوهري يتمثل في أنها من شأنها أن تساءل واقع المقاربات والتدخلات العلاجية بالمراكز والجمعيات المختصة بأطفال التوحد. أسئلة محورية من قبيل هل  يتحقق الوعي بتلك الخصوصيات في البرامج الموضوعة لإعادة تأهيل أطفال التوحد؟ وهل تعطى للآباء والأمهات والمربيات والمرافقات فرصة لاشتراط مراعاة تلك الخصوصيات لدى تسطير المقاربات العلاجية والتكيفية سواء في المراكز الخاصة أو العمومية؟