توطئة

يعتبر السابع من أكتوبر حدثا مفصليا في تاريخ الصراع مع الاحتلال الصهيوني، حيث انطلقت شرارة طوفان الأقصى فبعثرت كل الأوراق، وتحولت غزة مع حركة الطوفان، وما بعدها إلى قلب أشواق التحرر وأوجاع النهوض وكبد الإنسانية المجروحة ضد كل محاولات طمس الذاكرة، وتزييف الحقائق وتزوير السرديات وإنكار الإبادات.

ولفهم واستيعاب الأبعاد التاريخية والتحولات الجيوستراتيجية، نظّم “مركز معارف المستقبل للبحوث والدراسات” في المغرب، بالتعاون مع “مركز أندلس للأبحاث والدراسات”، خمس ندوات عِلمية دولية كشكل من أشكال التفاعُل والاستجابة الأكاديمية لقراءة المشهد السياسي بعد عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والإبادة الصهيونية في غزّة التي تبعتها، وصدرت مُخرَجات هذه الندوات بالإضافة إلى أوراق علمية أُخرى، أسهم فيها أكاديميّون مغاربة وعرب، في كتاب بعنوان: “القضيّة الفلسطينية بعد السابع من أكتوبر: الأبعاد التاريخية والتحوّلات الجيوستراتيجية” عن مؤسسة “عقول الثقافة” بالشراكة مع “مركز معارف المستقبل للبحوث والدراسات”.

مضامين الكتاب

منذ إعلان وعد بلفور المشؤوم، شكلت القضية الفلسطينية محور الحراك العربي ومركز حركات الإضراب والاحتجاج على المشروع الاستيطاني الصهيوني، وجسدت حركات التضامن والتظاهر الشعبي مع حقوق الشعب الفلسطيني ودعم مختلف أشكال مقاومته، العنوان البارز في الفضاء العام العربي على امتداد القرن الماضي والحالي، كما اقترن نضال حركات التحرر الوطني بالعالم العربي من أجل الاستقلال، بالنضال ضد المشروع الصهيوني واستراتيجياته في الاستيطان والتهويد والتهجير وما ارتكبه من جرائم ومجازر وإبادات منذ النكبة وبعدها، حتى اعتبرت الحركة الوطنية المغربية على سبيل المثال القضية الفلسطينية قضية وطنية.

وقد واجهت المقاومة الفلسطينية تحديات التقسيم والتبعية الصهيونية التي تعيشها الأمة نتيجة لمسار تاريخي وحضاري طويل ومتراكم من الانحطاط والاستبداد والاستعمار والتخلف، منذ البدايات الأولى للمشروع الاستيطاني الإحلالي، بالرغم من لحظات التواطؤ على إسكات الحق الفلسطيني، وتنامي العدوان على القدس والضفة وإطباق الحصار غزة العزة ومحاولة خنقها، وقطع الإمدادات من فصائل المقاومة وتجريمها خيارا للتحرر والتحرير.

انبعث “طوفان الأقصى” لإعادة الصراع إلى بداياته الأولى ومحو كل أشكال التطبيع والخنوع، وخروج المارد المستعصي على الترويض، وجاء هذا الإبداع ليعري الأوهام، وهم الجيش الذي لا يقهر، ووهم موت المقاومة والممانعة، ووهم الاستكانة العربية والإسلامية، وغيرها من الأوهام.

إن أهمية حدث السابع من أكتوبر وتداعياته وتأثيره قد تجاوز مساحة فلسطين والصراع العربي الإسرائيلي ليفرض نفس على بنية النظام الدولي برمته، فيختبر مؤسساته وفاعليه وقوانينه ويضعها على المحك. ثم يخترق “هدير فلسطين ” قلب الجامعات الغربية والنخب الأكاديمية بها، لتصبح التظاهرات الطلابية في أرقى جامعات أوروبا وأمريكا وأشهرها سمعة ومصداقية، مقرات للاعتصام والاحتجاج ضد الإبادة الإسرائيلية والتمويل الأمريكي للإبادة، وتطالب بوقف الحرب والتجويع والحصار، وتعلن الأجيال الشابة بأعلى صوتها : «فلسطين حرة». وهي حالة غير مسبوقة في تاريخ الجامعة الغربية من حيث رمزية حضور العلم الفلسطيني وألوانه ولبس الكوفية الفلسطينية في الفضاء الجامعي وإصرار الأساتذة والطلاب على الصمود في وجه الأجهزة التي تدخلت لفض الاعتصامات واعتقال الطلاب وتهديدهم بالطرد في صيغة تذكر بالدول الديكتاتورية والقمعية”. الكتاب ص 16/17″

لقد اختارت غالبية النخب الفكرية والأكاديمية العربية “الحياد السلبي” وقررت الصمت تجاه الإبادة الجماعية في غزة بدعوى الموضوعية أو المصلحة الوطنية، كما وظف بعضهم قدراته المعرفية وأدواته البحثية لتبرير الاحتلال بتحميل المقاومة المسؤولية عن هذه الجرائم البشعة وغير المسبوقة، فصار خطابها جزءا من مشروع التطبيع الهادف إلى الصهينة الشاملة التي تتعرض لها المنطقة، فضلا عن فقدان هذه النخب للمصداقية العلمية والأخلاقية في تحيزها لصالح الظلم والاستكبار العالمي، وانكماشها من إبداء أي موقف أخلاقي منحاز للمظلومين. (الكتاب ص 17)

لقد بقي معظم الخطاب العربي حول القضية الفلسطينية، يقول الدكتور سلمان بونعمان، حبيس خطاب اختزالي وتعبوي من جهة، ومستغرقا في مقاربات الفعالية وانطباعية من جهة أخرى؛ في ظل غياب للخطاب التفسيري المركب والمقاربات الفكرية والتاريخية والإستراتيجية المتعددة التخصصات، والقادرة على تقديم رؤية أكثر تركيبية التحولات القضية الفلسطينية وتحليل تحدياتها، وهذا أحد أهداف هذا الكتاب الجماعي الذي يسعى إلى فهم عميق لطبيعة الصراع القائم في المنطقة، وأبعاد المشروع الصهيوني الفكرية والسياسية والاستراتيجية، ذلك أن الاشتغال المعرفي على دراسة المشروع الصهيوني وتياراته في علاقته بالقضية الفلسطينية، يقتضي الوعي المركب بالآخر العدو والتعرف العلمي على مشروعه وآليات اشتغاله، وكذا مناهج تفكيره وحركاته ونفسياته، والفلسفات المناظرة لفكره وسوسيولوجيا استيطانه، بالإضافة إلى فهم التحولات الاجتماعية والاقتصادية وجغرافيا تمدده في المحيط وتحالفاته الإقليمية والدولية، رصدا وتحليلا واستشرافا، فضلا عن وضع القضية الفلسطينية في سياق صراع المشاريع الكبرى ورهانات القوى الدولية والسياسات الغربية في المنطقة . (الكتاب ص 17/18)

ومن المحاور التي تناولها الكتاب: “التأثيرات الإعلامية لعملية طوفان الأقصى”، و”القضية الفلسطينية بين السينما الغربية والسينما العربية”، و”أُسس ومرتكزات المشروع الصهيوني”، و”الاستعمار الاستيطاني”، و”الفشل السياسي والأخلاقي لمسؤولية الحماية”، و”موقع القضية الفلسطينية في التربية الوالدية للأطفال”. وقد شارك في الكتاب مجموعة من الأكاديميين، هُم: سلمان بونعمان، وإسماعيل حمودي، وفاطمة الزهراء هيرات، وإدريس قسيم، ومحمد أقديم، وعبد الحكيم أحمين، ومصطفى الطالب، وخالد عاتق، ونور الدين أحمد لشهب، وسعد عبد الرزاق السكندراني، ويوسف المتوكل، ومحمد السعيد الكرعاني، وآمنة مصطفى دلّة، والحسن مصباح.

خاتمة

لقد حاول الكتاب استيعاب مختلف أبعاد القضيّة الفلسطينية في ظلّ تحوّلات معركة “طوفان الأقصى”، وما أفرزته من نماذج جديدة في الحروب العسكرية وأشكال المقاومة التحرُّرية، وما ولّدته من حروب إعلامية ورقميّة ونفسيّة تستهدف بالصورة والدعاية والتحكُّم في المحتوى الرقمي، فضلاً عمّا حصل من ارتباك في التجارة والملاحة الدوليّتين ومن تعثُّر في النظام الاقتصادي العالمي، وكذلك على المستوى القانوني والأخلاقي للمؤسّسات الدولية.