المحتويات
توطئة
تستوقفنا مدينة سبتة بكثرة المتكلمين الأشاعرة فيها، ومن أبرزهم: أبو طاهر إسماعيل الأزدي (ت.400هـ)، وأبو محمد عبد الله بن أحمد التميمي (ت.501هـ)، وأبو القاسم المعافري (ت.502هـ)، وأبو الحجاج يوسف بن موسى الكلبي الضرير (ت520هـ)، وأبو الحسن ابن خمير السبتي (614هـ) وغيرهم. ومن جملة هؤلاء من الذين ذاع صيتهم وانتشرت مؤلفاتهم بكثرة؛ القاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي (ت.544هـ)، الذي عاش في عنفوان دولة المرابطين، ونشأ في أكثر أيامهم ازدهارا وأحفلها بالمجد والتوسع والسلطان.
التعريف بالقاضي عياض
هو أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض بن محمد اليحصبي[1]، المحدث الحافظ، ولد بمدينة “سبتة” من بلاد المغرب الأقصى، في النصف من شعبان سنة (476هـ)، كما ذكر ابنه محمد، واشتهرت أسرته بـسبتة بالتقوى والصلاح. سمع عياض من مشيخة مدينته، وتفقه ببعض رجالها، ورحل إلى الأندلس فأخذ بقرطبة ومرسية، ثم لم يلبث أن رحل إلى المشرق مثلما فعل غيره من طلاب العلم.
وبعد ذلك عاد عياض إلى “سبتة” غزير العلم، جامعًا معارف واسعة؛ فاتجهت إليه الأنظار، والتفَّ حوله طلاب العلم وطلاب الفتوى، فتفقه ودرس وتعلم وناظر حتى فاق أقرانه وذاع صيته، حتى صار من أعلم الناس باللغة وكلام العرب وأنسابهم، وكانت له اليد الطولى في كافة العلوم؛ من الحديث والفقه والأصول واللغة وغيرها، وله المصنفات العديدة، التي انتفع بها الناس، ومنها؛ “ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك”، و”الشفا بتعريف حقوق المصطفى” المشهورين، بالإضافة إلى كتاب “الغنية في شيوخ القاضي عياض”. وتوفي القاضي عياض مغرّباً عن وطنه -رحمه الله- في سنة أربع وأربعين وخمس مائة (544هـ) في رمضان، وقيل: في جمادى الآخرة منها بمراكش.
تقديم كتاب “الشفا”
تضمنت مصنفات القاضي عياض جملة وافرة من المباحث المتعلقة بعقائد أهل البدع والرد عليهم، وهو في الغالب لا يذكر ذلك ابتداء، وإنما يسوقه تبعا لما يقرره من عقيدة أهل السنة. وهو يستفيد من كل مناسبة للرد على أهل الأهواء، وقد يضيف إلى ذلك فوائد أخرى عنهم كالتعريف ووجه التسمية والمصادر التي تتضمن الكلام على معتقداتهم ونحو ذلك. وتعتبر كتب عياض رافدا مهما لكتب مقالات الفرق والملل والنحل.
ولعل أشهر مؤلفات القاضي عياض وأكثرها تداولا بين الناس، كتاب “الشفا بتعريف حقوق المصطفى”[2]، وهو كتاب في شمائل نبينا محمد -ﷺ-، ويُعدّ من أحسن الكتب المعرّفة به، قال فيه أهل العلم لما قرؤوه: «لولا الشفا لما عُرف المصطفى» تنويها بعمله الفريد، وقيل أيضا: «لولا الشفا لما عرف عياض» كتحلية لمؤلفه. وهو أشهر من أن يذكر، يقول القاضي عياض في مقدمته: “فإنك كررت علي السؤال في مجموع يتضمن التعريف بقدر المصطفى – عليه الصلاة والسلام – وما يجب له من توقير وإكرام، وما حكم من لم يوف واجب عظيم ذلك القدر، أو قصر في حق منصبه الجليل قلامة ظفر؟ وأن أجمع لك ما لأسلافنا وأئمتنا في ذلك من مقال، وأبينه بتنزيل صور وأمثال… ولما نويت تقريبه، ودرجت تبويبه، ومهدت تأصيله، وخلصت تفصيله، وانتحيت حصره وتحصيله، ترجمته بـ”الشفا بتعريف حقوق المصطفى”، وحصرت الكلام فيه في أقسام أربعة”[3]، جاءت على الترتيب التالي:
- الأول؛ في تعظيم قدر النبي قولًا وفعلًا،
- الثاني؛ فيما يجب على الأنام من حقوقه عليه السلام،
- الثالث؛ فيما يستحيل في حقه وما يجوز وما يمتنع وما يصح،
- الرابع؛ في تصرف وجوه الأحكام على من تَنَقَّصه أو سَبَّه.
لقد كان لتعظيم مقام النبوة أثر كبير في توجيه البحث في عصمة الأنبياء عليهم السلام، وما يتعلق بها من مسائل، حيث ذهب معظم متكلمي الغرب الإسلامي من الأشاعرة إلى عصمة النبي-ﷺ- من الكبائر والصغائر قبل البعثة وبعدها، عمدا وسهوا، وقد ردُّوا على من أجاز عليهم بعض ذلك بتفصيلاته. ومن ثم عقد القاضي عياض في كتابه “الشفا” مبحثا حول عصمة الأنبياء ضم مجموعة من الفصول في بابين اثنين؛
- الباب الأول بعنوان: في ما يختص بالأمور الدينية والكلام في عصمة نبينا وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم، وفيه ستة عشر فصلا منها: في حكم عقد قلب النبي- ﷺ- من وقت نبوته، في عصمة الأنبياء قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك، في إجماع الأمة على عصمة النبي- ﷺ- من الشيطان، في عصمة النبي في أقواله وأفعاله، فصل فيما يتصل بأمور الدنيا وأحوال نفسه، فصل فيما يتعلق بالجوارح، عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر، في عصمتهم قبل النبوة…
- والباب الثاني بعنوان: في ما يخصهم في الأمور الدنيوية ويطرأ عليهم في العوارض البشرية، وقسمه إلى تسعة فصول منها: فيما يخصهم في الأمور الدنيوية ويطرأ عليهم في العوارض البشرية، حالتهم بالنسبة للسحر، أحواله في أمور الدنيا، أخباره الدنيوية، حكمة المرض والابتلاء لهم…
يقول القاضي عياض: “فالأنبياء والرسل عليهم السلام وسائط بين الله تعالى وبين خلقه؛ يبلغونهم أوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، ويعرفونهم بما لم يعلموه من أمره وخلقه، وجلاله وسلطانه وجبروته وملكوته، فظواهرهم وأجسادهم وبنيتهم متصفة بأوصاف البشر، طارىء عليها ما يطرأ على البشر من الأعراض والأسقام والموت والفناء ونعوت الإنسانية، وأرواحهم وبواطنهم متصفة بأعلى من أوصاف البشر متعلقة بالملأ الأعلى متشبهة بصفات الملائكة سليمة من التغير والآفات، لا يلحقها غالبا عجز البشرية ولا ضعف الإنسانية.. وهذه جملة لن يكتفي بمضمونها كل ذي همة، بل الأكثر يحتاج إلى بسط وتفصيل على ما نأتي به بعد هذا…”[4].
خاتمة
وخلاصة ما ذكره القاضي عياض في خاتمة كتابه تبريئا لنبي الله عليه الصلاة والسلام مما نسبه المشركون والضالون في أحوال الأنبياء من المنكرين للنبوة قوله: “قد استبان لك أيها الناظر بما قررناه ما هو الحق من عصمته صلى الله عليه وسلم عن الجهل بالله وصفاته وكونه على حاله تنافي العلم بشيء من ذلك كله بعد النبوة عقلا وإجماعا وقبلها سمعا ونقلا ولا بشيء مما قرره من أمور الشرع وأداه عن ربه من الوحي قطعا عقلا وشرعا وعصمته عن الكذب وخلف القول منذ نبأه الله وأرسله قصدا أو غير قصد واستحالة ذلك عليه شرعا وإجماعا ونظرا وبرهانا وتنزيهه عنه قبل النبوة قطعا وتنزيهه عن الكبائر إجماعا وعن الصغائر تحقيقا وعن استدامة السهو والغفلة واستمرار الغلط والنسيان عليه فيما شرعه للأمة وعصمته في كل حالاته من رضا وغضب وجد ومزح، (مبينا ما يجب على المسلم تجاه نبيه قائلا:) فيجب عليك أن تتلقاه باليمين وتشد عليه يد الضنين وتقدر هذه الفصول حق قدرها وتعلم عظيم فائدتها وخطرها فإن من يجهل ما يجب للنبي – صلى الله عليه وسلم- أو يجوز له أو يستحيل عليه ولا يعرف صور أحكامه لا يأمن أن يعتقد في بعضها خلاف ما هي عليه ولا ينزهه عما لا يجب أن يضاف إليه فيهلك من حيث لا يدري ويسقط في هوة الدرك الأسفل من النار، إذ ظن الباطل به واعتقاده ما لا يجوز عليه يحل بصاحبه دار البوار”[5].
المراجع
[1] أنظر أعلام المسلمين (72): القاضي عياض (عالم المغرب وإمام أهل الحديث في وقته)- الحسين بن محمد شواط- دار القلم/دمشق-الطبعة الأولى/1999.[2] انظر كتاب: "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، القاضي عياض- تقديم وتحقيق: عامر الجزار- دار الحديث/القاهرة-طبعة/2004.
[3] "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، القاضي عياض، مرجع سابق، ص 10.
[4] "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، القاضي عياض، مرجع سابق، ص 332.
[5] "الشفا بتعريف حقوق المصطفى"، القاضي عياض، مرجع سابق، ص 396.