توطئة

تساهم قراءة القصص والروايات في بناء منظومة القيم الإنسانية والأخلاقية منذ تشكل الوعي لدى الإنسان، من خلال التمييز بين الخير والشر، والتفريق بين الخطأ والصواب، وترسيخ قيم التعاطف والرحمة والعطاء والمحبة والتعايش والإخاء والتسامح وقبول الآخر والانفتاح الثقافي والحضاري. فالقصص تفتح باباً عريضاً نحو اكتشاف عوالم الشعوب والثقافات عبر التاريخ والأجيال والمعتقدات.

القصة القصيرة عملٌ نثريٌّ خيالي يُمكن قراءتها عادةً في جلسةٍ واحدة، وتُركّز على حادثةٍ مُستقلةٍ أو سلسلةٍ من الحوادث المترابطة، بقصدِ استحضارِ تأثيرٍ أو مزاجٍ واحد. وإن “من خصائص القصة القصيرة جدًّا، التي تُميِّزها عن القصة القصيرة، التجرُّد من الزيادات والإطالة والحشو؛ فهي لا تتضمَّن إلَّا ما يهم القارئ ويريده ويُؤثِّر فيه… بالإضافة إلى رسم الشخصيات في كلمات قليلة جدًّا وبمهارة عالية؛ حيث يجب أن يقدم الموقف بسرعةٍ فائقةٍ، وبرسم الجو والخلفيَّات بضربات قليلة حاذقة…، وبهذا نستنتج أن القصة القصيرة جدًّا تحتاج إلى مهارة أكثر، وسرعة أكبر، وتكثيف أشد، وبراعة أعظم مما تتطلَّبه القصة القصيرة الاعتيادية”[1]. إن القصة القصيرة جدًّا جنسٌ أدبيٌّ حديث، يتَّصف بمجموعة من الخصائص التي تُميِّزه عن باقي الأجناس الأدبية، والتي تجعله قمينًا بأن يحظى باهتمام النقَّاد، وأن يحمل وَسْم “فن المستقبل”؛ لأنها حاضرة بقوة في مجال الإبداع والنقد. كما تساعدنا أيضًا في فهم العالم وموقعنا فيه، ونقل دروس مهمة في الحياة، ومساعدتنا في اختبار المواقف الصعبة عبر المحاكاة، وتزيد تعاطفنا مع الآخرين وشعورنا بأحوالهم، وبالطبع الترفيه والتغلب على التوتر والملل. وتكتسي أهمية عظمى عند اهتمامها بمعاناة الناس ومأساتهم والتنبيه لما يقع لهم من حيف وظلم، مثل ما نشاهده من إبادة جماعية لأهل فلسطين عموما وأهل غزة خصوصا.

وتعد مجموعة القصص القصيرة جدا التي اختار لها الأستاذ مولاي أحمد صبير الإدريسي “قبل وعد الآخرة؛ من وحي طوفان الأقصى” عنوانا لإحدى أهم القصص التي تميط اللثام عن مسار فعل المقاومة الفلسطينية بأرض الإسراء والمعراج، والتي امتزج ترابها بدماء الشهداء وبقيت عصية على التطويع والاستكانة، فأهل غزة لما ضاق بهم ظاهر الأرض اختاروا باطنها.

مضامين القصص

قدم لهذه القصص القصيرة جدا الدكتور محمد دخيسي، وتقع في 87 صفحة، وهي 70 قصة قصيرة، وصدرت عن مطبعة وراقة بلال. وقد اعتبرها الدكتور دخيسي “برقيات عاجلة من أرض غزة”، انطلق فيها المؤلف من قوله تعالى في سورة الإسراء: (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبَرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا). ويضيف دخيسي: “اقتبس المبدع القاص والروائي مولاي أحمد صبير الإدريسي الآية، ليجعلها عنوانًا كبيرا تتفرع عنه عتبات صغرى الحجم، واسعة الإدراك والفهم، لتكون المجموعة القصصية القصيرة جدا “قَبْلَ وَعْدِ الآخِرَة” صورة مكبَّرَةً عن واقع شاسع الأطراف جغرافيا، مديد الأطياف تاريخيا؛ إنه الرقعة المحبَّبَةُ “غزة العزة”، أو “غُرَّةُ العِزَّة”؛ التي وحدت كلمة السياسي، ومجدت لفظة المُبدع، وسدَّدَتْ رؤية المُفكّر، للتعبير عن أفق انتظار متلق متطلع للأفضل”.

“قبل وعد الآخرة”، هي الصرخة الأخيرة التي تمحي أثر الفساد في الأرض، فساد بني إسرائيل في الأولين والآخرين؛ لتكون الآخرة “طوفان الأقصى”، وليتبروا ما عَلَوْا دَمَارًا وخرابًا، وَهُوَ وعيد الله حل علاه لهم.

“قبل وعد الآخِرَةِ”؛ سيرة قصصية قصيرة جدا، وقد وسَمْتُها بـ “برقيات عاجلة من أرضِ غزة”، تتوشح بوشاح المقاومة، والشهادة، واستشراف المستقبل. أو “صرخاتٌ” يبثها قلمُ المبدع مولاي أحمد صبير الإدريسي، ضمن نسق تصاعدي تدريجي، يبني من خلاله حبكته القصصية وفق رؤية نقدية للواقع المعيش، ليُكرس فكرة نهاية الفساد”، ويُوطِن “ردة الفعل الانتقامي”؛ عنوانه المقاومة والنضال.

بالعودة إلى المجموعة القصصية القصيرة جدا “قبل وعد الآخرة”، نقف عند تجنيس النص، الذي يأخذ نصيبا من الأهمية بالنظر إلى المستوى الشكلي الذي انتظمت به النصوص، ومن خلال مستوى بنيتها التي تؤثثها المستويات التركيبية والدلالية.

فمن القضايا التي تثيرها القصة القصيرة جدا، نذكر:

  • عنصر الدهشة: إذ يغلب على بنية النص المستوى الدافع إلى إثارة فعل المفارقة بين الواقع الحقيقي، وخطاب النص من حيث دفع المتلقي إلى تغيير أفق توقعه؛ فتكون الومضة الخاطفة التي تسكبها ألفاظ النص دافعة إلى التساؤل.

يقول مولاي أحمد صبير الإدريسي في نص بعنوان “إرادة”: “دس في يد والدته ظرفا وأوصاها أن تفتحه عندما يرقص قلبها ذات مساء أمام قناة الأقصى أطل المذيع بـ “خبر عاجل”، رقص قلبها، مدت يديها المرتعشتين، فتحت الظرف، ثم قرأت: “سامحيني أمي، وأخبري والدي أنني صرت كما أرادني أبي أن أكون .” إذ يتحول “الخبر العاجل” من مجرد قصاصة أخبار إلى مصدر دهشة للشخصية الرئيسة في النص أولا، ثم لدى القارئ الذي يقَدِّمُ أكثر من تساؤل استفساري حول علاقة الخطابين ثانيا؛ خطاب الابن سالفا، وخطاب الوصلة الخبرية الآنية. كما لا يقف الأمر عند هذا الحد، بقدر ما يُكرّس لدينا حقيقة البحث عن أبعاد النص، ووظائفه البلاغية والجمالية.

  • عنصر التكثيف:  وهو ما عبر عنه النقاد القدامي واللغويون بالإيجاز، من ذلك ما قاله الجاحظ: “وقد ذكرنا أبياتًا تُضاف إلى الإيجاز وقِلَّةِ الفُضول، ولي كتاب جمعت فيه آيا من القرآن، تعرف بها [فصل] ما بين الإيجاز والحذف، وبين الزوائد الفضول والاستعارات… “. وقد سعت مجموعة من النظريات التقنية الحديثة لاستجلاء النص الأدبي بناء على مستويات مختلفة، منها على الخصوص التفكيك والتلقي الذي يرى ضرورة ملء الفراغات، أو البياض، أو تغيير الأفق، أو بناء الأفق الجديد، كما ذهب إلى ذلك ياوس وغيره. لذلك، فقراءة نصوص القاص مولاي أحمد صبير الإدريسي لا تخرج عن هذا الإطار؛ مما يوفر فسحة التأويل، وأخذ مسافة بين النحل والقراءة الواعية. كما أن دلالات النص لا تَبْرَحُ القضية الأساس: قضية الشعب الفلسطيني الأسير تحت قيود الاحتلال الغاصب، وبخاصة قطاع “غزة”، واستشهاد مجموعة من المناضلين وعلى رأسهم الشهيد “السنوار” كما في نص: “عنوان”: “نحيفا كعود زيتون، أشيب كزهر الياسمين، صيتا كرعود أغسطس، فاح أريجه، ساح لهيبه، صار عنوانا للقضية… السنوار”.  (قبل وعد الآخرة، ص: 46)

هذه بعض الإشارات إلى المستوى الدلالي والتركيبي، ويمكن التركيز أيضا في هذا التقديم على بنية المجموعة متكاملة، وفق تصور جامع، لتؤكّد أن الكاتب استطاع أن يشكله تصاعديا مع تصاعد حدة المقاومة. فانتقل من:

  • اليقين: الذي يستهل بالإيمان بالقضية الأساس، وتحريك الوجدان والفكر؛ للانتقال من جَذْوَةِ النفس إلى لَوْعَةِ الفَكْرِ، وتخليص الذات من الشوائب التي قد تنزل درجة الحماس. وقد شكلت النصوص الأولى هذا المستوى الأول، نذكر مثلا: (يقين، إرادة…).
  • الانتقال إلى المستوى الثاني، الذي يبدأ من خلاله تكوين الفعل الاحتجاجي القادر على تمرير فكرة التمرد والثورة. ومن النصوص التي تؤكّد ذلك: (احتجاج، رهاب، تضامن..).
  • المستوى الثالث، يُدرَجُ ضمن نسق الارتقاء إلى أعلى عِلِّيين مع الشهداء والصالحين، فتتوطد العلاقة بين الإيمان بالفكري والاستشهاد في سبيل تحقيقها (ارتقاء، استعجال، وصية…).
  • أما المرحلة الأهم، والمستوى المبتغى، فهو تقديم نماذج هذا الارتقاء، من خلال أسماء بعض الشهداء المخلصين: (طلقة، طوفان أحيى وأمات…).
  • لنصل إلى الارتقاء الثاني، والحزن الذي يؤدي إلى الانزياح عن الواقع، والتفكير في الانتقام الجماعي المبني على فكرة الامتناع عن الاستسلام، وسلك مشوار السنوار: (شعار، انزياح امتناع عن الكسر، عصا السنوار…).

والملاحظ، أن ترتيب هذه المستويات، كان مواكبا للترتيب الذي وضعه الكاتب نفسه لقصصه، دون أي تعديل منا أثناء القراءة الثانية.

خاتمة

نستخلص أخيرا أن النسق التصاعدي لهذه البرقيات العاجلة، كان من ورائه إيمان الكاتب بالقضية أولا، وإيمانه بالوظيفة الجمالية والتعبيرية والتأثيرية للنص السردي القصير جدا ثانيا؛ إيمان من ورائه وعي بأهمية إيصال الفكرة عبر عابرة الكلمة الهادفة المكثفة، والومضة المدهشة التي تستمد مشروعيتها من الحدث الأساس، وتبني مكوناتها ضمن التدرج من الفكرة إلى الفعل، ثم إلى الشهادة العليا: “قبل وعد الآخرة” (مقدمة الكتاب، من ص: 5 إلى ص: 12).

وإن من بين أهم عناوين القصص التي تضمنتها المجموعة التالي: يقين، بشرى، سخط، إرادة ، يعترض، لهيب، رهاب، مدرس، ذاكرة، إيمان، تضامن، أخبار، استثناء، ترقية، عنفوان، حول، استعجال، هرولة، وصية، تسلية مرة ، رزية، برنامج انتخابي، توأم ، العدد صفر، صمت ، قرار ، طلقة، عاصفة، خيبة، ولدان، معلمة، الحياة والموت، زرع، عنوان، الملثم، فتية، جديد القارات، رباط، دوي، اغتيال، ترقية، تلهي، جسارة، حزن، حفر، تصريح صحفي، النتن ياهو، هلع، دحرجة، ذعر، خردة… تمرين، نبوءة، دراما، الياسين، إدهاش، اتفاق، معادلة،يمين، وصية، انزياح،امتناع عن الكسر، عصا السنوار، نعي، ياهو، شوق، طالب شهادة،  ندامة.

المراجع
[1] انظر محمد داني، حفريات في القصة القصيرة جدًّا، مطبعة سجلماسة الزيتون، المغرب، مكناس، الطبعة الأولى 2017م، ص 25.