توطئة

يَندرج الحديث عن الوضْع التاريخي للصّحراء المغربية في إطار تأكيد جُملة مِن الحقائق التاريخية والمقتضيات الشرعية والتمرحلات السياسية للقضية، قَصْدَ بناء وَعي سليم بها وبِراهنها وبِموقِع الجامعة والبحث العلمي والأُمّة والإعلام في الدّفاع عنها والنهوض بها والتعريف بها قَبل ذلك وبَعده. بحيث يُشكِّل البُعد التاريخي الخلفية الحضارية والعُمق الثقافي والأمْني في معركة المغرب اليومَ ضدّ نزوعات الانفصال وخيارات التجزئة في المنطقة. وإذ لا تستَدْعِي هذه المادة مُجمَل المحطات والمعطيات والتفاصيل التاريخية[1]؛ غير أنّها تَستحضر جانبا مهما مِن “التَّاريخ الوطني” لجُزء هامٍّ مِن أرض المغرب الأقصى، لم تكن يوماً مجرّد أهمّ مناطق المغرب و”لكنها بالإضافة إلى ذلك؛ مِن مَنابع تاريخه الكُبرى، بكل ما تَفجّرت به تلك المنابع من قِيم ومُثل عليا، لا يمكن تجريد المغرب منها دونَ تجريده من صَميم شخصيته”[2] الحضارية.

الصّحراء المغربية.. قِدم المطامع الاستعمارية

ولئن كان يُفيد تعاقُبُ سَبع دول حَكَمت المغرب ابتداءً من القرن الثامن الميلادي؛ عَدم ثباتِ حدودها التُرابية، إلا أنَّ مُعطىً أساساً يبقى حاضراً كمُجَسِّمٍ لثوابت الوضعية التاريخية للمغرب، يتعلَّق الأمر بثابِت: الرُّقعة الجغرافية لما يُمكن تَسميته بالمغرب – الأصل، أو ما كان ولا زال يُعرَف بالمغرب الأقصى، الـمُحَدّ غرباً بالمحيط الأطلسي، وشمالاً بالبحر الأبيض المتوسِّط، وشرقاً بما وراء ملوية وتلمسان، وجنوباً بالقبائل الصَّحرواية، وإنّ ثبات الرقعة الجغرافية هو الذي كانَ يُعطي للدَّولة المغربية مُحتواها الوطني،”فالدَّولة في المغرب لا تكون دولـةً مُعتَــرَفاً بها إلَّا إذا كانت وطنية، بمعنى أنَّها تَضمُّ هذا الوطن الذي يُشكِّـله المغرب الأصْل”[3]، ولِـتقويض هذا الثَّابت وتَقليم مَداه؛ سَعت القوى الاستعمارية الإيبيرية منذ بدايات القرن الخامس عشر الميلادي إلى احتلال المغرب التاريخي، وفي القرن التّاسع عشر، وبالضبط منذ استعمار الجزائر سنة 1830م، تَوسَّعت فرنسا الاستعمارية على حساب التراب الصَّحراوي للمغرب شرقا (توات، العبادلة، القنادسة، لالة مغنية، المنابهة، كولومب بشار، تندوف..)، وجنوباً، فضلاً عن بلاد شنقيط (جمهورية موريتانيا حاليا)، ثمَّ تَرَاضَتْ مَعَ إسبانيا بمُقتضى أَوْفَاق ومعاهدات دُبّرَت في الخفاء على اقتسام المغرب، وجاءت اتِّفاقيةُ الحماية (1912م) لتُكرِّس واقع هيمنة القوات الإسبانية على ما عُرِف بالصّحراء المغربية الكبرى.

تَصدّت المقاومة المغربية لمطامع الاستعمار في الجنوب الصّحراوي[4] منذ عهْد المولى عبد العزيز، وامتداداً إلى 1959م مع جيش التّحرير المغربي، فَتَمّ استرجاع كاب جابي التي سبَق وأن احتُلّت سنة 1916م، ثم منطقة سيدي إفني، وطرفاية التي كانَ منها الـمنطَلَق الفِعلي للمسيرة الخضْراء لاحِقاً.

وفي مرحلة الخمسينات والستينات من القرن العشرين؛ واصلَ المغرب جهودهُ مِن أجل استكمال مشروع ضَمّ الصحراء المغربية إلى حظيرة الوطن، بِبُعْدَين؛ أحدهما سياسي-دبلوماسي، والآخَر نضالي-تحريري. وكان المغرب وقتئذ يناضل وَحيداً؛ بحيث كانت القضية واضِحَةً تماما في ذلكم الطَّور (1953-1960)، أيْ قضية وجود استعماري أجنبي في جُزء مِن تراب وطننا. واستثمَرَ في النَّــفَس الاستقلالي للشَّعب المغربي وفي التّوصية التي أصْدَرتها هيئة الأمم المتّحِدة سنة 1960م القاضية بمنح الشَّعوب الـمُستَعمَرة _ بما فيها سُكان الصّحراء المغربية_ استقلالها، كما أكّدت سنة 1966 على حَقّ سكّان الصّحراء الخاضِعة للسّيطرة الأجنبية في تقرير مصيرهم.

وفي هذه المرحلة أيضا طرأت تحوّلات عَصفت بالجوار المغربي – الجزائري[5]، وأدّت لتَصاعُد دعوات الاستقلال عن المغرب مِن موريتانيا مع حِزب السيد المختار ولد دادّه، ثمّ تأسّستْ جبهة البوليساريو في ماي 1973؛ وهي التحولات التي دَفَعت بالمغرب إلى نَقْل مِلفّه إلى اللّجنة الرابعة المكلّفة بتصْفية الاستعمار والتابعة لهيئة الأمم المتحدة.

نحوَ المسيرة الخضراء

كان موقف عسكر إسبانيا إلى غاية 1974م هو رفْض التفاوض مع المغرب أو الانسحاب الطّوعي من الأقاليم التي تحتلّها، ثمَّ كانَ أنْ أعلنت إسبانيا عَزمها إجراء استفتاء داخلي في الصّحراء تحت رعاية الأمم المتحدة، فرَحَّب المغرب بالاقتراح شريطَة أنْ تَنسحبَ القوات الإسبانية عن الصّحراء، ويَعود جميع اللاّجئين الصّحراويين، ويَتِمَّ التّصويت تحت مراقَبة مباشِرة لهيئة الأمم المتّحدة، وأنْ يَتِمَّ الاتّفاق مع المملكة المغربية على وضْع الأسئلة التي ستُطرَح على الصحراويين.

وأمَام تَأَزُّم الوضع الدَّولي والرسمي للمغرب، تَقَدّم الملك الحسن الثاني بوضْع ملف المملكة المغربية لدى محكمة العدل الدّولية بتاريخ 25 مارس 1975 لإبداء الاستشارة، فأصْدَرَت المحكمة رأيها يوم 27 أكتوبر 1975 تقول فيه: “الصّحراء لم تكن أرضاَ سائبة، وهناك علاقات بيعة لبعض القبائل إزاء سُلطان المغرب”، و”ليست هناك علاقات سيادة تُرابية قد تُؤثِّر على مبدأ تقرير المصير وتعبير السكان عن إرادتهم”، هذا الموقف الـمزدوج الذي وصَفه الكاتب الراحل محمد عابد الجابري بعبارة “نعم.. ولكن”[6]؛ استثمَر المغرب شَطر الجواب (نَعم)، فأطلَق المسيرة الخضراء الـمُظفَّرة التي استرَجع بُعيدها السّاقية الحمراء ثم وادي الذَّهب، بموجِب اتفاقية أْبرِمت بين الرباط ومدريد ونواكشوط يوم 14 نوفمبر 1975، تُوّجَت بانسحاب جنود الاحتلال الإسباني يوم 12 يناير 1976، سنةً واحدة بعد عودة الملكية إلى إسبانيا.

عقِبَ نجاح المسيرة الخضراء في 06 نونبر 1975؛ تَـمَّ توقيع معاهد ترسيم الحدود مع موريتانيا يوم 14 أبريل 1976، فَــتقديم ساكنة وادي الذّهب البيعة للملك في غُشت 1979، تأكيدا على الرّوابط التاريخية والدينية والوطنية، وتثمينا لكفاح العرش[7] والشّعب مِن أجل استقلال هذه المناطق العزيزة. وسَنةً بعد ذلك؛ أعطى الملِك الأوامر لانسحاب القوات العسكرية المغربية من الأراضي الموريتانية صوبَ وادي الذَّهب الـمُستَرْجَع إلى حوزة الوطن.

مقترحات وتسويات دولية أمام الوحدة التُّرابية

دَخلَت قضية الصحراء المغربية في الثّمانينات طوراً آخَر كانت أبرز فُصوله إعلان المغرب الرسمي عَزمَه اعتماد الاستفتاء التأكيدي في الصّحراء في قمة نيروبي، وهو الاختيار الذي باء بالفشل، فكان أنْ غادَر المغرب منظمة الوحدة الإفريقية، ودَخَل غمار حرب استنزاف طويلة الأمد ضدّ عصابات البوليساريو، لم يحُدَّ مِن شراستها إلا بناء الجدار الأمني.

وعلى الصّعيد الدِّبلوماسي؛ ارتَهنَ المغربُ للتَّعليمات الصادرة من أمريكا وأوروبا، وأضْحت أطروحة “تقرير المصير” تحظى بالإجماع الدَّولي، وأَصَرَّت الجزائر على الوفاء لعقيدة الانفصال وإمداد المقاتلين الصحراويين والمرتزقة الأجانب ضِمن الجَبهة بالمال والسلاح لإنهاك المغرب ووضْعه في حالة “لا حرب، لا سِلم” كما وَصَفها الحسن الثاني[8]، رغم ما كانَ مِن لحظات تقارُبٍ بين الملك والرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد ولقائهما التاريخي على الحدود، فَضْلاً عن الاستقبال الذي حضِيَ به قادَةُ الجبهة مِن طرف الحسن الثاني يوم 4 يناير 1989 في قصره بمراكش.

وابتداءً من سنة 1991 سَتَــتَقَدَّمُ الأمم المتّحدة بمقترح مخطّط التّسوية، وافَقَت عليه كلّ الأطراف، وشُرِع في تطبيقه بالموازاة مع وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ يوم 6 شتنبر 1991، واضِعاً حَداَّ لأزيد من 16 سنة من الحرب الشرسة بين المغرب والجبهة، ويُعَدُّ القرار ثَمرة مبادَرة أممية قادها الأمين العام للأمم المتحدةالبيروفي خافيير بيريز دي كويلار، وامتدَّ التفاوض حوله أكثر من 6 سنوات، وعُهِدَ بالإشراف عليه إلى بِعثة المينورسو. وقد حَالت خروقات في عملية تحديد هوية الصّحراويين الناخبين؛ وتَعنُّت الجزائر والجبهة دونَ نجاح التسوية. ليَدخل الملفُّ طوراً جديدا مَع الألفية الجديدة.

الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية تحت السيادة المغربية

في سنة 2001 تَم إعداد مشروع “الحل الثالث” المعروف بمخطط جيمس بيكر، القاضي بإعطاء سُكّان الصّحراء حُكما ذاتيا في إطار السيادة المغربية، وقد قَبِله المغرب ورَفضْته جبهة البوليساريو. كما تمّ اقتراح “خطة من أجْل السلام في الصّحراء”سنة 2003، التي رفضها المغرب لاعتبارِ مَسِّهَا بالسِّيادة المغربية على تراب الأقاليم المـستَرجعة، وإفراغها الاتفاقَ الإطار (2001) من مضامينه.

واستِدراكاً للهدْر الزّمني والسياسي؛ اقترحَت المملكة المغربية مبادرة “الحكم الذّاتي للصَّحراء” _ يَضمُّ نَصُّ مُقترح الحكم الذاتي 35 نُقطة، مُوزَّعة على 3 محاور كُبرى _ ابتداءً من سنة 2007، في إطار سياسة الجهوية الـمُوَسَّعة، أتْبـعَتْـها بِـحَمْلَة دبلوماسية مكثَّفة لإقناع الدُّول العربية والآسيوية والإفريقية واللاتينية والأوربية بواقعية الـمقتَرح، واستَعادت إثْر ذلكَ مَقعَدها في منظمة الإتحاد الإفريقي في أبريل 2017.

ومنذ العام 2004؛ تَخوض أطراف النّزاع مفاوضات مباشرة غير رسمية تحت رعاية الأمم المتحدة إلى يومنا هذا، ويجدد المغرب مَـدَّ يد الحوار والسلام للجيران لإنهاء التوتر وإنجاح مـرامِي الوحدة في المنطقة المغاربية، واستِلْهام قِيَم وعِبَر المسيرة الخضراء السِّلمية.

خاتمة

إنَّ جهود المغرب على أكثر مِن مُستوى، ومَطالِب المجتمع المغربي وقواه الحيّة بِشأن الوحدة الترابية المنسجِمة مع الخيار الوحدوي؛ تَؤول إلى عُمق نَظَري وفلسفي يَرفض التَّجزئة والتَّقسيم ومنطق التَّنازع وإدامة التَّوتُّر، ويُدَعِّمُ روح التَّعاون والتّضامن والوحدة في مواجهة مخاطر الاستعمار الجديد ومخطَّطَاته، وفي نَفس الوقت ينتقد المقاربة الرسمية ويُنَبِّه إلى عيوبها ونواقصها ويدعو إلى تجاوز العثرات وتكرار سيناريوهات الفَشل. ويُمَيِّزُ بَين الخطأ في بعض القرارات التي تتَّخِذُها الدولة وبين خطيئة الانفصال ودعم الانفصال، لا سيماَ وقدْ أضحى “المشكِل يَتَلَخَّص في نزاع حادّ بين حكومة الجزائر مِن جهة، وبين المغرب مِن جهة ثانية. لقد صُـفِّيَ الاستعمار الإسباني، ورَجَعت الصّحراء إلى حظيرة الوطن العربي باندماجها في دَولتين عُضوين في الجامعة العربية. ومِن العبث القول إنّ النزاع هو بين حركة تحرير صحراوية وبين احتلال أجنبي، إنَّ هذه الحركة لا توجَد إلا على أرض الجزائر؛ حركة بلا شَعب، وجمهورية بلا تُراب”[9]، مُشكِلٌ يُريد افتِعال الاقتتال وعدم الاستقرار في العلاقات، وتأخير حُلم الوحدة المغاربية والعربية، في حين تبدو قضية الصحراء مُـلخَّصةً في مُشكلة الحدود، التي كانت سببا في حرب الرمال سنة 1963، وبالضبط مُشكل (تندوف) _ بداية الصّراع ونهايته _، والمحرّك الأساسي لهذه القضية.

المراجع
[1] انظر: (الفاسي) علال: "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي"، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الطبعة السابعة، 2010. و (آيت يدر) محمد بن سعيد: "صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي"، تقديم عبد الله إبراهيم، مطبعة التيسير، الدار البيضاء، طبعة 2001. وجريدة "العَلم" لسنوات: 1953 – 2016، وجريدة "المحرّر"لسنوات: 1963 – 1976، منشورات الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. و"معلمة المغرب"، مجموعة مؤلفين، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، دار الأمان، الرباط، ط 1، 2014، الجزء 26، الملحق 3.
[2] مجموعة مؤلفين: "الترافع الديبلوماسي الموازي لمغاربة العالم حول الصحراء المغربية"، تنسيق علال الزهواني، الحاج ساسيوي، سعيد بنحمادة، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقامين وأعضاء جيش التحرير بشراكة مع المنتدى الأوربي للوسطية ببلجيكا، الطبعة الأولى، 2021، ص 9.
[3] (الجابري) محمد عابد: "المغرب المعاصِر؛ الخصوصية والهوية، الحداثة والتنمية"، مؤسسة بنشرة للطباعة والنشر، الدار البيضاء – المغرب، الطبعة الأولى نوفمبر 1988، ص 117.
[4] انظر: (شبيهنا) حمداتي ماء العينين: "دور العرش والأمة في استكمال الوحدة الوطنية والمحافظة عليها"، ضمن أعمال ندوة علمية "المقاومة المغربية ضد الاستعمار 1904-1955"، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، مطابع كاب رانت، الطبعة 2، 2008.
[5] انظر: (ابن محمد) الحسن: "ذاكرة ملك"، حوار مع إيريك لوران، كتاب الشّرق الأوسط، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1993، الفصل 6، ص: 47 إلى ص 52.
[6] انظر: (الجابري) محمد عابد: "في غمار السياسة فكراً وممارَسةً"، الجزء 3، القسم 9، منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2010، من الصفحة 29 إلى الصفحة 37.
[7] انظر: "كفاح ملوك الدولة العلوية من أجل وحدة المملكة المغربية"، مجلة (دعوة الحق)، العدد 162، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، https://www.habous.gov.ma.
[8] "ذاكرة ملك"، مرجع سابق، ص: 111 إلى ص 119.
[9] (العروي) عبد الله: مقال: "حقوق المغرب الشرعية في صحرائه الـمسترجَـعة"، ضمن مجلة الإيمان، في عددَيها 89 – 90، السنة التاسعة، عدد خاص عن الصّحراء المغربية، ص 69.