مقدمة

تعتبر قصة المكتبة الزيدانية، واحدة من القصص الحزينة لضياع إرث علمي كبير للمغاربة، وسرقته من طرف الإسبان إبان الأزمة التي عاشها المغرب في بداية القرن السابع عشر خلال حكم الدولة السعدية، وذلك بعد وفاة سلطانها القوي أحمد المنصور الذهبي سنة 1603م، وما تبع ذلك من صراع بين أبناءه الثلاثة حول الحكم. وقد كان من ضحايا هذه الأزمة خزانة السلطان المولى زيدان ابن أحمد المنصور (1603م-1627م)، والتي تعرضت للسرقة من طرف القراصنة في البحر لينتهي بها الحال في خزاتة دير الإسكوريال (EL Escorial) في مدريد بإسبانيا. ورغم المحاولات العديدة التي بذلت من طرف سلاطين المغرب لاسترجاع هذا الكنز العلمي والثقافي المسروق من قبل إسبانيا، فإن آلاف المخطوطات التي تضمنتها الخزانة الزيدانية بالاسكوريال تشكل اليوم أهم جزء من المجموعات العربية في الإسكوريال، وهي لا تزال تنتظر من يسترجعها إلى وطنها المغرب.

قصة المكتبة الزيدانية

جريا على عادة السلاطين المغاربة، وخاصة سلاطين الدولة السعدية في جمع ونسخ الكتب وإنشاء المكتبات، تمكن السلطان السعدي مولاي زيدان من تكوين خزانة تضم في وقتها آلاف الكتب والمخطوطات التي جمعها طيلة حياته. وقد أغنى جزء كبيرا من مكتبته مما ورثه من مكتبة والده السلطان أحمد المنصور الذي عرف عنه حبه للعلم والعلماء والإهتمام بالكتب، والتي جمع منها عددا كبيرا من نوادر الكتب ومن تخصصات علمية كثيرة والتي تمكن من جلبها من خارج البلد. وحسب محمد الصغير اليفرني فقد كان لأحمد المنصور “عناية تامة باقتناء الكتب والتنافس في جمعها من كل حهة: فجمع من غريب الدفاتر ما لم يكن لمن قبله، ولا يتهيأ لمن بعده مثله”[1]. وقد سمح هذا الشغف السلطاني بالكتب وجمعها بأن تتكون خزانة ملكية كبيرة في العهد السعدي، وهي التي ورثها المولى زيدان عن والده أحمد المنصور ومكتبتي أخويه أبو فارس والمامون بعد وفاتهما، فكانت “هاته المكتبة أول مجموعة ملكية لم يشهد لها مثيل. فقد كانت كل الكتب تقريبا إما تحفا في فن الخط، أو منتسخة بخط أعلام مشهورين، أو نسخا بخط أصحابها”.[2]

وبسبب تفجر الصراع بين أبناء أحمد المنصور الثلاثة؛ زيدان، وأبو فارس، وأحمد الشيخ المامون، اندلعت حرب ضروس بين الإخوة الأعداء استمرت لقرابة عقد من الزمن، انقسم خلالها المغرب بين مملكتين، مملكة م بقيادة مولاي زيدان ومملكة فاس بقيادة محمد الشيخ المامون. كما تفجرت خلال نفس الفترة ثورة قادها الفقيه الصوفي ابن أبي محلي، والذي تمكن من الدخول إلى مراكش عاصمة حكم مولاي زيدان سنة 1612م. واضطر المولى زيدان من النزوح من عاصمته مراكش رفقة حاشيته وثرواته وخاصة خزانته القيمة باتجاه سوس مرورا بمدينة آسفي. ومن أجل الانتقال بحرا إلى منطقة سوس بغرض تنظيم المقاومة لاسترداد عاصمته مراكش وطرد ابن أبي محلي منها، تطلب تنقله استعمال باخرتين للوصول إلى مدينة أكادير في سوس. وقد حمل ثروته وخزانته في إحدى السفينتين، ويتعلق الأمر بسفينة القنصل الفرنسي جان فيليب دوكستلان (Jean philippe de castellane)، وذلك مقابل أداء ثلاثة ألاف دوكا.[3]

سرقة الخزانة الزيدانية

وفي 16 يونيو 1612م وصلت السفينة إلى ميناء أكادير، لكن ربانها رفض أن ينزل الخزانة والثروات الأخرى قبل أن تدفع إليه الثلاثة آلاف دوكا. وبعد ستة أيام من الانتظار للتوصل بأجرة السفينة قرر كستلان وطاقم السفينة أن يهرب من ميناء أكادير. وبعد أيام وجد نفسه بفعل الرياح المشاكسة في مياه مدينة سلا يوم 05 يونيو 1612م، وهناك التقى بأربع مراكب تعود لقراصنة إسبان، فطاردته هاته الأخيرة فاستولت على السفينة بما تحمل من ثروات السلطان السعدي وسبعين حِملا من الكتب العربية.[4]

كان عدد الكتب التي تضمنتها المكتبة 4020 كتابا، وكانت مزينة في أغلبها بأغلفة مزخرفة، وكانت ضمنها كمية كبيرة جدا من المصاحف المذيلة بالتفسير وغير المذيلة بذلك، ومؤلفات في الفلسفة والشرع والسياسة، ومؤلفات في المفردات والطب والجراحة. وأرسلت الخزانة أولا إلى لشبونة في البرتغال وكانت مستعمرة آنذاك من قبل إسبانيا، قبل أن تنقل إلى خزانة دير الإسكوريال بمدريد في عهد الملك فليب الثالث. وفي 16 يونيو 1671م تعرض جزء مهم منها للحرق بفعل الحريق الذي شب في الدير[5]، وتشير بعض المصادر إلى أن ما تبقي بعد هذا الحريق من المكتبة الزيدانية بالإسكوريال لا يتعدى ألفين مخطوط.

المكتبة الزيدانية.. محاولات الاسترداد

لقد شكلت سرقة الخزانة الزيدانية صدمة للمغاربة لمدة طويلة فحاولوا جراء ذلك أن يسترجعوا المكتبة وغيرها من المخطوطات المغربية التي استولى عليها المسيحيون في زمن الاستعمار الإسباني والبرتغالي. فلما وصل إلى علم السلطان مولاي زيدان بقرار سفينة القنصل الفرنسي، تحرك بسرعة من أجل استردادها، فأقسم أن يسجن جميع الفرنسيين الذين كانوا يتواجدون في المغرب آنذاك، كما بعث سفيرا إلى الأراضي المنخفضة (هولندا)، وإلى ملك فرنسا لويس الثالث عشر، وأمير إسبانيا الذي اشترط على مولاي زيدان إطلاق سراح جميع المسجونين الإسبان. لكن كل هذه الجهود من قبل مولاي زيدان لم تمكن من استرجاع المكتبة. وبعد وفاته سنة 1627م حاول من أتى بعده من الملوك السعديين استرجاع الخزانة، إلا أنهم لم يفلحوا ذلك.[6]

وفي عهد الدولة العلوية حاول بعض السلاطين استرجاع المكتبة الزيدانية وباقي المخطوطات العربية المحفوظة في إسبانيا. وفي سبيل ذلك أوفد المولى إسماعيل (1672م-1727م) سفيره الوزير ابن عبد الوهاب الغساني عام 1690م من أجل التفاوض على استرجاع المسلمين المسجونين في إسبانيا، واقترح على الملك شارل الثاني افتكاك الأسارى الإسبان مقابل خمسة آلاف مخطوط عربي موضوعة في الأسكوريال. ولما علم السفير بالحريق الذي شب في الأسكوريال سنة 1671م، لم يلح على أن يحصل على مجموع المخطوطات، وقبل حسب أوامر السلطان بأن يستبدل المخطوطات بخمسمائة سجين مغربي. وإذا كان الغساني تمكن من إطلاق الأسرى المغاربة فإنه لم يفلح من استرجاع المخطوطات العربية بما فيها الخزانة الزيدانية، بسبب رفض الإسبان التفاوض حول مخطوطات الإسكوريال استجابة لتوصية بابا الكنيسة الكاثوليكية الذي منع إخراج الكتب من هاته المكتبة.[7]

وكانت هناك محاولة أخرى في عهد السلطان محمد عبد الله (1757م-1790م) الذي أرسل السفير أحمد المهدي الغزال الفاسي في 1179ه/1766م والسفير عالم مكناس محمد ابن عثمان المكناسي في سنة 1213ه/1779م، لكن جهود السفيرين لم تنجح في استرجاع مخطوطات الإسكوريال بسبب تعنت الإسبان وقرار البابا ألا يتم التصرف في تلك المخطوطات.[8]

مصير مخطوطات المكتبة الزيدانية

بعد سمحا إسبانيا للمستشرقين والباحثين بالإطلاع على المخطوطات العربية لديها، قام بعض الباحثين بدراسة وفهرسة تلك المخطوطات. ويبقى الراهب الماروني اللبناني ميشيل كازيري (أو ميخائيل الغزيري) (Michel Casiri)  أهم هؤلاء الباحثين، حيث أصدر بين عامي 1760م و 1770م فهرسا من مجلدين للمخطوطات العربية بالإسكوريال بعنوان: “المكتبة العربية الإسبانية في الاسكوريال”، وقد ترجمت هذه الفهرست إلى العربية في عهد المولى سليمان العلوي باقتراح من الأديب والوزير المغربي محمد بن عبد السلام السلوي. وتحتفظ الخزانة الحسنية (الخزانة المكلية) بالرباط بالنسخة الوحيدة لهذه الترجمة[9]. وفي 1884م أنجز المستشرق الفرنسي هارتنفج داينبورغ (Hartwig Derenbourg) بوضع فهرس، وعنونه ب”مخطوطات الإسكوريال العربية”. وفي سنة 1928 نشر المستشرق الفرنسي الشهير ليفي بروفنصال (Levi Provençal) جردا لتلك المخطوطات تحت عنوان: “قائمة المخطوطات العربية في الإسكوريال”.[10] وفي سنة 2013 حصل المغرب على نسخ من رقمية من المكتبة الزيدانية في الأسكوريال، وهي متوفرة بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية بالرباط.

المراجع
[1] الإفراني محمد الصغير، نزهة الحادي بأخبار ملوك الحادي، تقديم وتحقيق عبد اللطيف الشادلي، ط1، 1998، ص 136.
[2] أحمد شوقي بنبين، تاريخ خزائن الكتب بالمغرب، ترجمة مصطفى طوبي، ص 94.
[3] أحمد شوقي بنبين، تاريخ خزائن الكتب بالمغرب، مرجع سابق، ص 187.
[4] أحمد شوقي بنبين، تاريخ خزائن الكتب بالمغرب، مرجع سابق، ص 187.
[5] أحمد شوقي بنبين، تاريخ خزائن الكتب بالمغرب، مرجع سابق، ص 188.
[6] أحمد شوقي بنبين، تاريخ خزائن الكتب بالمغرب، مرجع سابق، ص 188-190.
[7] أحمد شوقي بنبين، تاريخ خزائن الكتب بالمغرب، مرجع سابق، ص 191-192.
[8] أحمد شوقي بنبين، تاريخ خزائن الكتب بالمغرب، مرجع سابق، ص 192-193.
[9] فهرسة المخطوط العربي في بعض البلدان المتوسطية: خزانات الفاتكان والوطنية الفرنسية والأسكوريال نموذجا، أحمد شوقي بنبين، مجلة "دعوة الحق"، العدد 281، ربيع الثاني –جمادى الأولى 1411/أكتوبر-نونبر-دجنبر 1990.
[10] لمحة عن تاريخ الخزائن المكلية بالمغرب الأقصى، مجلة "دعوة الحق"، العدد 228 جمادى الثانية-رجب 1403/1983.