مقدمة

يمثل الماء عنصرًا أساسيًا في حياة المجتمعات الريفية بالمغرب، خاصة في المناطق الجافة وشبه الجافة التي تعتمد بشكل كبير على نظم ري تقليدية مستمدة من خبرات متراكمة عبر أجيال. وتعتبر أعراف توزيع المياه وتنظيمها في منطقة سوس بالمغرب نموذجًا حيًا لتفاعل الإنسان مع بيئته الطبيعية، حيث نجحت المجتمعات المحلية في بناء نظام متكامل دقيق يضمن التوزيع العادل والمسؤول لمورد نادر وثمين، عبر آليات تنظيمية واجتماعية متوارثة.

يتناول هذا البحث دراسة تفصيلية لأعراف سقي الأراضي في مناطق الجنوب المغربي، مع التركيز على منطقتي أڭلو وماسة في سوس، حيث توضح هذه الأعراف كيفية إدارة وتوزيع المياه باستخدام وحدات قياس تقليدية وأدوار اجتماعية محددة، في إطار نظام تشاركي يحفظ حقوق الجميع ويكفل استدامة الموارد. وتبرز هذه الدراسة أهمية تلك الأعراف كوثائق حية تعكس حكمة المجتمع المحلي في مواجهة تحديات البيئة، وتسلط الضوء على التجارب التاريخية التي شكلت نماذج للتنظيم الجماعي والعدالة الاجتماعية في تدبير المياه.

تقنيات وأعراف تدبير الماء في سوس

تدبير الماء بمنطقة أڭلو:

تقع جماعة أڭلو على بعد نحو 12 كيلومترًا غرب مدينة تزنيت، على الساحل الأطلسي. وتُعدّ العين الطبيعية المتوفرة بالمنطقة المصدر الأساسي لسقي الأراضي الفلاحية، حيث يتم استغلال مياهها عبر ساقية أڭلو، وفق نظام عرفي محكم أقرّه السكان المحليون لضمان توزيع عادل للمورد المائي.

وقد أرسى سكان المنطقة جملة من القواعد العرفية التي تنظم عملية السقي، وأوكلت مهمة السهر على تنفيذها إلى جماعة مكوّنة من أعيان القبيلة، يُعهد إليهم مراقبة الساقية، وضبط عدد النوبات، والإشراف على صيانة وتوسيع مجراها حسب الحاجة. وتقوم هذه الجماعة بتعيين شخص يُعرف محليًا بـ”الترجمان” أو “الترشمان”، يُشترط فيه التوفر على دراية واسعة بأساليب تقسيم المياه وأعراف السقي، خصوصًا ما يتصل باستعمال أداة القياس المحلية المسماة “تاناست”.[1]

وتتمثل “تاناست” في طاسة نحاسية نصف دائرية الشكل، تُوضع داخل مرجل مملوء بالماء. تتسرب المياه تدريجيًا إلى داخل الطاسة عبر ثقب في مركزها، وعندما تمتلئ تسقط تلقائيًا داخل المرجل، مُشكّلة بذلك وحدة زمنية تُعتمد لضبط أوقات النوبات.

ويُميز سكان أڭلو بين نوعين من الطاسات:

  • الطاسة الرابحة: وهي وحدة تمثل عدد النوبات التي يمتلكها كل فرد، وتدخل ضمن الملكيات الفردية، حيث تُباع وتُشترى.
  • الطاسة الساقطة: وهي الأداة النحاسية نفسها التي تُستخدم كوحدة قياس زمنية، وسُمّيت كذلك لأنها تسقط في المرجل بمجرد امتلائها، معلنة نهاية وقت نوبة معينة.[2]

يمثل هذا النظام مثالًا حيًّا على نجاعة التنظيمات العرفية في تدبير الموارد الطبيعية، وكيف استطاعت المجتمعات المحلية تطوير آليات خاصة بها تضمن الاستدامة والعدالة في التوزيع.

ترتبط “الطاسة الرابحة” و”الطاسة الساقطة” بعلاقة تناسبية دقيقة، إذ تعادل الطاسة الرابحة ثلاث طاسات ساقطة، ويُعبّر عن هذا التناسب في اللغة المحلية لدى ساكنة أڭلو بالعبارة الأمازيغية: “تاناست إربحن س كرات إيطارن”.

بعد خروج المياه من الساقية الرئيسة، تُوجَّه إلى الحقول عبر قناة فرعية تُعرف محليًا باسم “أكطوم”، وهي التي تربط بين مجرى الساقية وحقل المستفيد من الحصة المائية. في هذه المرحلة، يتدخل “الترجمان” – المسؤول عن مراقبة توزيع المياه – لإعطاء إشارة البدء إلى المستفيد من النوبة، سواء كانت نهارية أو ليلية، للشروع في ري أرضه.

يظل الترجمان واقفًا بجانب المرجل، يراقب “طاسة تاناست” النحاسية الموضوعة داخله. وعند امتلاء الطاسة وسقوطها، تُحتسب وحدة واحدة، ويُعاد ملء الطاسة ومراقبتها حتى تسقط ثلاث مرات متتالية، أي ما يعادل طاسة رابحة واحدة. بعدها يُعلن الترجمان، بصوت عالٍ، عن انتهاء الحصة المائية لصاحب النوبة، الذي يبادر بدوره إلى فتح القناة نحو حقل جاره المستفيد الموالي، وفق نظام متسلسل مضبوط.

يستمر هذا الإجراء طيلة النهار والليل، حيث يتم التناوب بين ترجمانين، ضمانًا لحسن السير المنتظم لعملية السقي. وقد وصف العلامة المختار السوسي هذه الآلية بدقة حين قال: “فكلما امتلأت الطاسة، يصرخ الصارخ بذلك، فيسمعه من يسقي بالماء في الحقول، فيعلم أن الطاسة قد انقضت. فإن انقضى ماؤه، يبادر من تليه نوبته، فيميل الماء من أعلى المجرى إلى حقوله أيضاً، وهكذا دواليك”[3] .

تُجسد هذه الأعراف نظامًا عرفيًا دقيقًا لتوزيع المياه، يجمع بين المعرفة التقنية المتوارثة، والتنظيم الاجتماعي المتوافق عليه، مما يدل على عمق التجربة الفلاحية لدى ساكنة الجنوب المغربي.

ورغم ما يتميز به نظام السقي في منطقة أڭلو من دقة وتنظيم محكم، فإن النزاعات قد تطرأ أحيانًا بين السكان و”الترجمان”، وذلك نتيجة سهو أو إهمال في توزيع الحصص المائية. غير أن هذه الحالات تُعد نادرة الوقوع، وتعكس – في الوقت ذاته– حساسية التوازن بين الحقوق الفردية والواجبات الجماعية في تدبير المورد المائي المشترك.

وفي مثل هذه الحالات، تُعرض النزاعات على لجنة محلية تُشكّل من بين أعيان الساكنة، وتضطلع هذه اللجنة بمهام عدة، من أبرزها البت في المخالفات، ومعاقبة كل من يتعدى على القوانين والأعراف الجاري بها العمل، إلى جانب مراقبة سجلات المستفيدين التي تُدوَّن فيها النوبات وأسماء ذوي الحقوق في مياه ساقية أڭلو.[4]

ومن المبادئ الأساسية التي تحكم هذا النظام العرفي، أن كل شخص لم يستغل حصته المائية في وقتها المحدد ضمن الدورة السقوية –والتي تُعرف محليًا بـ”أوتّا”– يفقد حقه في المطالبة بها لاحقًا، ولا تُستدرك في دورة لاحقة، مما يُرسّخ مبدأ الانضباط الزمني في الاستفادة من الماء، ويمنع أي إخلال بتوازن الحصص أو تعدٍّ على حقوق الغير.

تدبير الماء بمنطقة ماسة

تُعد منطقة ماسة من بين المناطق التي حافظت على تراث مائي عرفي متجذر، توارثته الأجيال جيلاً بعد جيل، ولا تزال الساكنة المحلية متمسكة به في تدبير مورد الماء، خصوصًا في ما يتعلق بتوزيع مياه السقي بين العائلات.

ويُطلق على القائمين على تنظيم وتوزيع الماء في هذه المنطقة اسم “إنڭافن”، وهو ما يقابل أمناء الماء في واحات الجنوب المغربي ومناطق أخرى بسوس. ويُشترط في “أنڭاف” أن يكون متمرسًا في شؤون السقي، ملماً بعدد النوبات، وعدد المستفيدين منها، وطبيعة الأراضي المعنية، بما يضمن عدالة التوزيع وفق ما تقتضيه الأعراف المحلية.[5]

ويُعتمد في منطقة ماسة، كما هو الحال في مناطق أخرى من الجنوب المغربي، على “الطاسة” كوحدة لقياس الزمن المائي المرتبط بالنوبة، حيث تُستعمل لتحديد وقت بداية ونهاية كل نوبة، وتُقسم الطاسة إلى أجزاء دقيقة (الثلث، الربع، النصف)، مما يُعبر عن دقة التنظيم وصرامة التقسيم في نظام السقي المحلي.

تتميز بعض السواقي في منطقة ماسة بفرض قوانين عرفية صارمة تنظم استغلال مياهها، ومن أبرزها ساقية “آل أموت”[6]، التي يمنع فيها منعًا باتًا بيع أو تأجير حصص المياه المخصصة لكل شخص. يُقر في هذه الساقية بحق كل مستفيد في استخدام حصته فقط لسقي أراضيه الخاصة، ولا يحق له التنازل عن هذا الحق بأي شكل من الأشكال.

عقب انتهاء فترة النوبة، يُمنح حق الاستفادة من المياه للشخص التالي في الدور، على أن ينتظر كل مستفيد نوبته المحددة وفق الجدول الزمني المعمول به، والذي يتكرر بعد مرور مدة شهر كاملة.

ويُعاقب بشدة كل من يُثبت تورطه في بيع أو سرقة الماء، إذ يفرض عليه دفع غرامات مالية كبيرة تُصرف لفائدة “أنڭاف”، الجهة المشرفة على تنظيم السقي. وفي حال امتناعه عن دفع الغرامات، يُحرم من حقه في الاستفادة من المياه لمدة نوبتين متتاليتين، وهو إجراء زجري يهدف إلى ردع المخالفين وحفظ النظام والعدل في توزيع الماء.

وتستفيد ساكنة ماسة من موارد مائية متنوعة تُجلب إلى الأراضي الزراعية عبر شبكة من السواقي، تنقسم بدورها إلى مجارٍ ثانوية تُعرف بـ”المصاريف”، تتولى توزيع الماء بشكل متشعب داخل الرقعة الزراعية، مما يبرز تطور البنية التحتية التقليدية لهذا النظام العرفي وديناميته في التكيف مع الواقع الفلاحي المحلي.

خاتمة

تُظهر دراسة أعراف سقي الأراضي في مناطق الجنوب المغربي عمق التجارب الاجتماعية والثقافية التي توصلت إليها المجتمعات المحلية عبر أجيال طويلة في تدبير مواردها المائية. فقد نجح سكان مناطق أڭلو وماسة، في بناء نظم عرفية دقيقة تقوم على مبادئ العدالة والتشارك والمسؤولية الجماعية، تضمن توزيع المياه بشكل متوازن يراعي مصالح جميع الأطراف.

وتتسم هذه الأعراف بآليات تنظيمية متطورة تشمل تعيين مسؤولين متخصصين (كـ”الترجمان”، و”الأنڭافن”) يراقبون ويشرفون على سير عملية السقي، مستخدمين وحدات قياس زمنية تقليدية كـ “تاناست”، التي تعكس فهماً عميقًا للحساب الدقيق لضبط زمن الحصص المائية.

كما يحرص النظام العرفي على تطبيق عقوبات رادعة تجاه المخالفين لقواعد توزيع المياه، مما يسهم في حفظ التوازن الاجتماعي وضمان استمرارية النظم الفلاحية التقليدية. فضلاً عن أن هذه الأعراف تعكس دينامية تفاعلية بين تقنيات الري التقليدية والمعايير الاجتماعية التي تضمن توزيعًا مستدامًا للموارد في بيئات قروية يصعب فيها اعتماد أنظمة ري حديثة.

وبهذا، فإن هذه الأعراف لا تعد مجرد قواعد تنظيمية فحسب، بل هي تعبير حي عن حكمة محلية مستمدة من طبيعة البيئة والظروف الاقتصادية والاجتماعية، تؤكد أهمية التكامل بين الإنسان وموارده الطبيعية، وتقدم نموذجًا مثاليًا للتسيير الجماعي المستدام للمياه في المجتمعات الريفية.

المراجع
[1] أفا عمر، »تاريخ أنظمة السقي التقليدي وتقنية تقسيم المياه في أحواز تيزنيت «، ندوة مدينة تيزنيت وباديتها في الذاكرة التاريخية والمجال والثقافة، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، أكادير، 1993م، ص.122.
[2] أفا عمر، »تاريخ أنظمة السقي التقليدي وتقنية تقسيم المياه في أحواز تيزنيت «، مرجع سابق، ص.127.
[3] السوسي محمد المختار، »المعسول«، مطبعة النجاح، الدار البيضاء، 1961م، ج.20، ص.152.
[4] بونبات محمد، حقوق الماء في المغرب مقاربة للنوازل و الأعراف و قانون الماء، المطبعة الوطنية، مراكش ، 2000م، ص.36.
[5] بونبات محمد، حقوق الماء في المغرب مقاربة للنوازل و الأعراف و قانون الماء، المرجع السابق، ص.32.
[6] بونبات محمد، حقوق الماء في المغرب مقاربة للنوازل و الأعراف و قانون الماء، مرجع سابق، ص.33.