نحن المغاربة ألسنا مجتمعا شَكَّاءً؟ يشكو كثيرا وبِغير مناسبة، يَسْتَحِب المظلومية ويفسر كل شيء بنظرية المؤامرة؟ نرى في الآخر مسؤولا عن كل الخيبات ونُنَزِّه الذات عن كل الخسارات؟. هذه واحدة من تساؤلات أستاذ علم الاجتماع عبد الرحيم العطري، في كتابه الذي صدر مؤخرا بعنوان “سوسيولوجيا الحياة اليومية.. الرمزي أفقا للتفكير”. الكتاب يضم قراءات بعين سوسيولوجية في جوانب من الحياة اليومية، ويقول كاتبه إنها أبحاث تحاول التأسيس لمقدمات في دراسة المجتمع المغربي من خلال الرمزي.
ينطلق الكتاب من فهم خاص يرى في العلم الاجتماعي مدخلا قرائيا مُهما لتعرية الواقع وكشف دينامياته الأكثر خفاء. إنه محاولة للنفاذ عبر زاوية سوسيولوجية إلى البنى العميقة التي تكتنز المعنى وتيسر مسالك الفهوم. أكثر من ذلك فهو يرى أن ما يحبل به اليومي من علاقات وطقوس ورموز؛ يشكل مادة خصبة للقراءة والتحليل تُسعف في بناء فرع تخصصي جديد داخل حقل علم الاجتماع، يمكن وسمه بسوسيولوجيا الحياة اليومية.
هكذا سنجد في طيات الكتاب تناولا لمواضيع اجتماعية كبيرة مثل التحول القيمي بالمغرب، وأخرى محدودة في موضوعها لكنها محملة بالرمزي مثل “لغة الخشب” أو البوز Buzz”. والقاسم المشترك بين تلك المواضيع أنها تأتي ضمن التحولات الاجتماعية التي عرفها المجتمع المغربي، والتي تسير –حسب المؤلف- في اتجاه إعادة تشكيل العلاقات الانتاجية الجماعية وتراجع مفاعيل المؤسسات التقليدية لصالح خيارات فردية وعصرية، لا تَسْلَم من تأثير التقليد وتوجيهه. على رأس هذه التحولات ما سماه العطري “البلوكاج” الذي حدث عند محاولة الانتقال من المخزن إلى الدولة لكنه انتهى إلى حالة المخزنة، وهو ما أفرز ثنائية التقليد والعصرنة، وتَكشّف أيضا عن انتقال من القبيلة الى القبلية، عوض الانتقال من القبيلة إلى المؤسسة.
وضمن قراءته لليوميات المغربية يتوقف الكتاب عند ملمح مغربي سَمَّاه العودة المستمرة إلى الفائت، والدفاع الدائم عن أطروحة الأمس الجميل. فهناك عبارة يرددها المغاربة باستمرار وهي عبارة “ناس زمان” و”زمان بكري”. إنهم ناس زمان الذين لا مثيل لهم اليوم. فهم يجسدون الصلاح والشجاعة والكرم والوفاء. لكنّ المفارقة أن زمن بكري هو بالضبط تجربة المتحدث عنه أي أنه ليس من صنع أحد سوى من يتحدث عنه ويستشهد به بنوع من الحنين، فهو زمن -يقول العطري- لا وجود له حتى في الماضي، ولهذا كثيرا ما تتم أسْطَرَته وتضخيمه لتحقيق الانتصار الرمزي على الحاضر.
وفي الكتاب مساحة مهمة لدراسة الظواهر والأعطاب جراء انتشار ثقافة الأنترنت بالمغرب التي ساهمت في تغيير ملامح اليومي. فالكائن الإلكتروني يواصل تجذير مكانته في صياغة التمثلات والعلاقات والممارسات على حساب الكائن الاجتماعي. لقد ساهم الانترنت باستعماله المعطوب لا السوي في جملة انقلابات قيمية، وأدى إلى توسيع دوائر ثقافة الجاهز على حساب مساحات النقد والسؤال، وأنتج في مستوى العلاقات ملامح من الانعزالية والعبودية الرقمية. من تلك الأعطاب التي يتوقف عندها العطري؛ ظاهرة “البووز Buzz ” كظاهرة سوسيو-تقنية أفرزها الانتماء إلى زمن الصورة. لقد صار الرهان الأقصى للمنتمين لذات العصر هو تحقيق أعلى درجات البوز الممكنة أملا في حصاد الشهرة والخروج من سجل المجهولية إلى المعروفية، ولا يهم أن تكون الوسيلة دوسا على المشترك القيمي أو عبثا بالحياة الخاصة أو حتى انتهاكا للمحظور، المهم أن تتحقق الشهرة ويصير صاحب البوز حديث الهنا والهناك. من هنا يصير البوز ظاهرة تمشهدية غايتها التمسرح أمام الآخرين مع ما يستوجبه هذا التمسرح من شروط الفرجة ضمانا للمتابعة وحصدا في النهاية لنقرات الإعجاب.
لقد أضحى العالم الافتراضي واقعا لا محيد عنه، وأضحت مواقع مثل فيسبوك أو يوتوب جزءا من اليومي المغربي. غير أن هشاشة التربية تحول دون الاستفادة الايجابية من هذه الوسائل. على سبيل المثال فإن “الموقف المتناقض من الجنس وهشاشة التربية الجنسية وانتشار الفوبيات المرضية المرتبطة بالمسألة الجنسية؛ يجعل مساحة الاشتغال الجنسي على الأنترنت وعلى اليوتوب تحديدا هي الأكثر بروزا بدل الاستعمال العلمي أو الثقافي أو الترفيهي”.
وبعيدا عن العالم الافتراضي؛ نعثر في الكتاب على قراءات متناثرة لظواهر مغربية معقدة مازالت تستثيرنا أحداثها كل مرة. هنا ظاهرة قوارب الموت التي يختارها الشباب بديلا عن غرفة انتظار بحجم وطن، يكتشف فيها العطري جانبا من إشكالية سؤال الهوية والإنتماء الذي يعيش المغاربة قلقه الموجع. وهنا أيضا قراءة لظاهرة الشغب الرياضي الذي يندلع عند كل مباراة. إنه من وجهة نظر السوسيولوجي لا يتعلق بتشجيعات رياضية تتجاوز الحد أو انزلاقات غير محسوبة؛ بل هو بحث مستمر عن فريق/وطن آخر بانتماء جديد وهوية أخرى، وكل عنف يتم في هذا الصدد ما هو إلا محصلة لعنف سابق عليه. ولا تتوقف إشكالية الهوية والانتماء عند الشباب المغربي عند هذا الحد، ففي مستوى آخر هناك ظواهر أخرى كالحرص الشديد على الانصات للموسيقى الصاخبة والإصرار على تقمص شخصية الآخر في اللباس والمأكل والذائقة الموسيقية، وفي ذلك كله تلوح ثقافة الاغتراب وتتأكد –حسب العطري- الهوة بين الشباب والهوية التي أصابها الاهتزاز.
في الكتاب أيضا قراءات لمواضيع أخرى، من “لغة الخشب” التي باتت عابرة للسجلات والحقول الاجتماعية وتخترق حميمية الحب والعلاقات الرومانسية ونصوص الأدب والإبداع، إلى تحليل الشعارات والشارات التي ترفع في الاحتجاجات والتي بدأت تتحول من الشاعرية إلى البلطجة. ذلك أن “سقف المطالب أخذ في الارتفاع، والاحتجاج بالشعارات المهذبة أو النابية بات الطريق الأيسر للتواصل بين القاع الاجتماعي وقشدة المجتمع”.