تقديم

عرفت قضية الصحراء المغربية تطورات منذ أن استعمرت من طرف المستعمر الإسباني مرورا بطرده بعد المسيرة الخضراء المظفرة، وحدوث ارتباك بسبب دعم حركة البوليساريو من طرف الإسبان وجيراننا، وبدعم من بعض الدول التي لا ترغب في استقلال المغرب ورقيه، مما ساهم في حرمان محتجزي تندوف من الاجتماع بذويهم وأقاربهم.

لقد أصبحت تلك قضية المغاربة جميعا، بل قضية العرب، وقضية إفريقيا، كما أنها قضية الشعوب المحبة للحرية والسلام في العالم. وكان اهتمام الأدباء: شعراء، تشكيليون، مسرحيون، سينمائيون، وكذا مفكرون مهما وثريا. ومن بين الكتاب الذين اهتموا بالقضية الوطنية عبد العزيز كوكاس الذي ألف كتاب “جبهة بوليساريو.. الصعود نحو الهاوية” برؤية مغايرة، تختلف عن الأدبيات الكثيرة التي أغرقت المكتبات والخزانات في موضوع النزاع الإقليمي حول الصحراء المغربية.

مضامين الكتاب

صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب عام 2017 تحت عنوان “جبهة بوليساريو: من حلم التحرر إلى أوهام الانفصال، رؤية مغايرة”، ولقيت احتفاء مهما في الساحة الثقافية والإعلامية، لأن الكتاب خرج من سياق اللغة التي اعتدنا رؤية الأشياء من خلالها… هنا وهناك. وقد تلقى المؤلف العديد من رسائل التنويه والإشادة على إصدار الكتاب، من طرف زعماء سياسيين وباحثين كبار ومثقفين وازنين. وفي ظرف سنتين من صدوره نفذت الطبعة الأولى وظهرت معطيات جديدة على مستوى الوقائع الميدانية والتطورات السياسية، أو معطيات تاريخية خاصة مع صدور بعض مذكرات السياسيين المغاربة والأجانب التي تخدم جانبا من الأطروحة التي أبرزها في كتابه. واشتغل على تطعيم الكتاب بمعطيات جديدة من حق القارئ معرفتها، وهو يشارف على إعداد الكتاب للطبعة الثانية، حدثت موقعة الكَركَرات وما سبقها وتلاها من أحداث، وذلك رغم أن أطروحة الكتاب غير معنية بالتفاصيل والوقائع الجزئية وتنشغل بالجوهري الذي حدث في قلب التحولات المفصلية في تاريخ المنطقة، وفي صلبها مسار جبهة البوليساريو كحركة مغربية انطلقت من أحلام التحرر من المستعمر الإسباني وانتهت إلى الانفصال عن الوطن الأم بعد أن وضعت كل زمامها في رحى صراعات أنظمة الجوار وهي تعاني اليوم – إذا لم تع أفق تطور الوقائع وتستنتج الدروس من مجرى التاريخ بجرأة سياسية كبرى…

وبعد أن نفذت الطبعة الثانية وبإلحاح كبير من سياسيين وكتاب، وصحافيين وطلبة وأصدقاء ظلوا يسألون عن الكتاب الذي نفذت طبعته، ارتأى أن يقدم للطبعة الثالثة من كتابه، رجل خبر منعرجات القضية الوطنية في الجهاز الدبلوماسي إلى جانب الراحل امحمد بوستة لما كان في وزارة الخارجية، بالإضافة إلى أنه كان شاهدا على نشأة بوليساريو وعلى مختلف التحولات التي عرفتها قضية الصحراء المغربية في زمن السلم والحرب وفي قلب عواصفها بحكم انتمائه الجغرافي والسياسي، وبحكم مهامه الرسمية وأيضا بصفته مثقفا خبر الملف ودهاليزه عن قرب، إنه السي محمد ماء العينين. (الكتاب ص11).

يقول محمد ماء العينين في مقدمة الكتاب “قراءتي لكتاب جبهة البوليساريو؛ الصعود نحو الهاوية”، ومقارنته بالكتب المتعددة التي تيسر لي الاطلاع عليها، خصوصا وأنني كمواطن مغربي مزداد إبان الاستعمار الإسباني بالصحراء المغربية الغربية التي تعرضت عائلتي بها لقصف عمليات إيكوفيون سنة 1958م، ولكوني كنت بعد ذلك من بين الطلبة القادمين من الصحراء الذين بدأت لدى البعض منهم في بداية السبعينيات بالرباط إرهاصات الحركة الانفصالية، فإنه من واجبي أن أكون قد قرأت الكثير من الكتب في الموضوع، ويدعوني ذلك بقوة الوطنية أولا والفضول العلمي ثانيا والمهام النضالية ثالثا أن أقوم بمقارنة كل كتاب مع الكتب الأخرى لأواكب الواجب العام في مقاومة تزوير التاريخ ومحاربة الدس والكذب على الأحداث والوقائع… الذي تعاني منه بلادنا. (مقدمة الكتاب ص 6).

لقد تحاشى الكاتب عن قصد الخوض في التاريخ البعيد وتحاشى مناقشة أطروحات خصوم الوحدة الترابية أو استدلالات المغرب على حقوقه في إثبات ارتباط الأقاليم الصحراوية بالوطن الأب المملكة المغربية.. وقام بمجهود غريب يحاكي عمليات التشريح الطبي الدقيق التي يقوم بها الأساتذة الكبار لمعالجة خلايا الدماغ البشري والأنسجة الدقيقة. إنه لم ما يذهب بعيدا في التاريخ بل اعتمد بالأساس المواقف والأحداث المفصلية بين سنة 1970م وسنة 1973م وهي جزء من التاريخ المعاصر.

اكتشف كوكاس في قضية الصحراء، أن المغرب هو ضحية النظر إليه من بعيد، ما يصاغ عن الوحدة الترابية للمملكة، هو وجهة نظر الأجانب وتصوراتهم عن واقع لا يُقيمون فيه، ولا يسكنون لغته ورموزه وإشاراته، أنتجوا “مغربا” صنعوه، وأضحينا نستشهد باللغة التي فُهم بها المغرب الذي نسكنه ويسكننا… إما مغرب سياحي بارد أشبه بصور البطائق البريدية، منمق مثل الصفحات الإشهارية، وإما مغرب بعيد قادم من بدائية ضاربة في التاريخ، منشطر على ذاته، متناقض مع مكوناته… ويتساءل الكاتب: هل نظر المجتمع الدولي إلى المغرب كما هو؟ ألم يؤد المغرب ضريبة كسل اللغة القانونية الدولية؟ لأنها لم تعرف رابطة اسمها البيعة ولا الدعاء لأمير المؤمنين في المساجد، ولا فض النزاعات وإصدار الأحكام باسم عرش المملكة، ولا الامتداد الثقافي العميق، وبنية السلوكات الاجتماعية وتقاطع التمثلات والتصورات والطقوس والتقاليد بين مركز المغرب وأطرافه؟ (الكتاب ص 13/12).

قدم  كوكاس في هذا الكتاب ما كان  قد اشتغل عليه في مسار تطور حركة بوليساريو خارج القراءات الرائجة المسكونة بعنف القوى يخفي تحت طبقاته الكثير من الحقائق، أو يتستر بغير اليسير من الأوهام الإيديولوجية غير النبيلة. جالس العديد من مؤسسي البوليساريو، زار المناطق الجنوبية عشرات المرات، جالس العديد من متزعمي بوليساريو الداخل واستضافهم في المنابر التي كان يرأس تحريرها… وقدم هنا حصيلة جزء من مسار حركة كان كافيا طول الزمن أن يلبس نشأتها بالكثير من طبقات الكذب وتصبح لغة التوصيف من هذا الطرف أو ذاك، لغة عنيفة لها مخالب وأنياب. ذلك أن الحقيقة هي أول ضحية في لحظة الصراع، والصدق هو الشهيد الأكبر في ساحة تاريخ أدخل مختبرات العديد من الدول لها مصلحة في استدامة الأزمة (الكتاب ص 13).

لقد جاء المؤلف، الذي يقع في 186صفحة (الطبعة الثالثة، منشورات النورس، تقديم محمد ماء العينين)، غنيا ويتجلى ذلك في محتوياته ومنها: جبهة البوليساريو … النشأة والتطور، ما قبل شهادة الميلاد، محمد البصري والمنظمة الإسلامية لتحرير الصحراء، البوليساريو حركة تحرر مغربية المنشأ، الوالي مصطفى السيد الوطني التحرري الذي خانته فوهة بندقية، زمن البدايات الأولى: مقاربات متباينة للتحرير، البوليساريو انحراف المسارات، القذافي يعترف، بوليساريو، نحن الذين أسسناها ودربناها وسلحناها، الانفصال هو الهدف، والتحرر خيط دخان، الاتحاد المغاربي… الوحدة تبطل الانفصال إلى حين، الصورة هنا … والصورة هناك، مفاوضات سرية في اتجاه الباب المسدود، ورطة الجغرافيا وظلم التاريخ، تقرير المصير… الضحية والجلاد، إسبانيا وخدعة التمييز بين السيادة والإدارة في الصحراء، حديد الجزائر والمنفذ البحري، الأطراف المعنية في ملف الصحراء، عقدة إسبانيا تجاه مستعمراتها القديمة، موقف فالسوم أحدث ثقب أوزون في خطط الجزائر، معاكسة المفاوضات، مستقبل الإقليم … هل يدخل الفيل من ثقب إبرة؟، تطابق الأهداف والخلفيات بين الداخل والخارج، الجزائر وإسبانيا اختلفا حول الطحين واتفقا حول العجين، المضي نحو السرعة الثالثة، بداية الاستقطاب، ضد الكيل بمكيالين، أطفال أنابيب الغاز، مظلة حقوق الإنسان، انفصاليو الداخل … شجرة صنوبر كغاية، لعبة الخارج.

تحولات كثيرة واكبها المؤلف، 45 سنة من التيه، و 29 سنة من حالة اللاحرب واللاسلم، والضياع في قلب صحراء لا نبت فيها ولا زرع، لم يعد السراب يغذي أوهام جيل من أبناء المخيمات الذين تلقوا تكوينا في جامعات أجنبية، ومع وسائل تكنولوجيا التواصل الاجتماعي أصبحوا يميلون إلى أن يعيشوا زمنهم وفق أحلامهم، وهو غير جيل الآباء من الأميين الذين أسلموا القياد بشكل أعمى لقيادة جبهة بوليساريو، جيل لم تعد تعني له مسكنات الثورة والكفاح المسلح، والشعب الصحراوي، واستعارة واقع الأرض بأسماء مطلقة على مخيمات في أرض أجنبية مخيم العيون، مخيم الداخلة مخيم أوسرد …. أصبح يقارن بين الوضع هنا والوضع هناك، جيل متعطش ليحيى حياته بحرية وبكرامة، فرضت على كوكاس تغيير العنوان الأصلي للطبعة الثانية للكتاب ليصبح “جبهة البوليساريو.. الصعود نحو الهاوية”.

خاتمة

كتاب الأستاذ عبد العزيز كركاس “جبهة بوليساريو الصعود نحو الهاوية” يعد بحق نموذجا جديدا ومقاربة غير مسبوقة. وبأسلوبه السلس، قام الأستاذ كوكاس بتشريح دقيق لما تم بين المغرب والجزائر وموريتانيا وإسبانيا من اتصالات ومواقف وتصريحات من جهة. وما كان يعتمل بالجامعة المغربية وبالعيون التي عرفت آنذاك “انتفاضة حي الزملة”، وما تراكم من وقائع مفصلية وسمت جزءا مهما من تاريخ الصراع في المنطقة… إن من لم يحط بكل تلك الأحداث المتلاحقة من 1970م إلى 1973م، يكون قد ضيع فرصة تشريح حصيلة الحركة الانفصالية التي بعملية قيصرية عنيفة أنجبت المولود الذي أطلق عليه سنة 1973 اسم البوليساريو.

لقد اجتهد كوكاس في الإجابة عن سؤال مؤرق، كيف تحولت بوليساريو من حركة تحررية بأطر مغربية جلها درست في الجامعات المغربية وانحدر العديد منها من جنود آباء مقاومي جيش التحرير، إلى حركة انفصالية في لحظة دقيقة من تحرير المغرب للصحراء؟ من هي الأطراف الحقيقية في أزمة الصحراء الغربية؟. بوليساريو الداخل هل هو حقيقة أم مجرد صناعة إعلامية؟ ما العلاقة بين بوليساريو الداخل وبوليساريو الخارج؟ كيف يؤدي المغرب فاتورة كسل القانون الدولي في تحديد مفاهيم الوحدة وتقرير المصير؟ وأسئلة كثيرة يحاول هذا الكتاب مقاربتها من خلال وقائع وأحداث مواقف وتصريحات رغبة فقط في أن نفهم كي لا نموت بُلداء.