المحتويات
توطئة
وصَف العالِم الـمحقِّق والمؤرخ المدقِّق عبد الهادي التازي (تــ 2015) رحلة ابن بطوطة الشهيرة أنها حدث فريد من نوعه، حدثٌ رَبط تاريخ المغرب لأول مرة بتاريخ العالم، وكانت من أسباب استمرار اسم السلطان أبي عنان والسلطة المرينية الـحاكمة خالدا عبر التاريخ، وقد أحسَن السلطان صُنعاً عندما أصدَر أمْره للكاتب الـمُجيد محمد بن جُزَيْ الكَلبي الغِرناطي لتحرير رحلة ابن بطوطة سَـماعاً عنه، ثم إعطاءه الأمر بانتساخها وتمكين المغاربة من قرائتها، وتداوُل خبْرته الرّحلية وجوْهَر فوائده السَّفَرية.
والـمُطالِع لنصّ هذه الرحلة الماتعة العجيبة النافعة الـمُسمّاة “تُحْفة الـنُّظَّار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”؛ يستوقفه كَمٌّ هائل من المعلومات والأحداث والمواقع الجغرافية وأسماء الأعلام، ويَستفيد من مُعجمٍ ضخم تضمَّن أسماء الأتربة والأطعمة والأشرِبة والعادات والتقاليد والثقافات والأحوال السياسية وغيرها، ويَلْمَس في شخصية أبي عبد الله بن بطوطة تِلْك المهارة البارعة في الجمع بين رَصيدٍ عظيمٍ من المعارف، وتجربة غنية في العيش والثّقافة والاجتماع البشري، واتِّصالٍ مُكثَّفٍ بأرباب الفكر والفقه والتصوّف والأدب والسياسة والـمُلك وعوالِم الشعوب، عَبْر خريطة جغرافيةٍ امتدَّت مِن طنجة التي غادَرها يوم الخميس 2 رجب 725 هجرية، الموافِق لسنة 1322، على عهد السلطان عثمان بن يعقوب المريني، إلى ما وراء الصين، فكان بحقٍّ كما وصفه الكاتب الأديب ابن جُزَي الغرناطي “جَوّاب الأرض، ومُخترِق الأقاليم بالطول والعَرض”.[1]
من غَزَّة إلى الأقصى.. مَشاهد وفَوائد
بعد سفْرته الطويلة بحرا وبَرَّا صوبَ أرض الحجاز وأداء فريضة الحج والتبرك بمقام الرسول في المدينة المنورة؛ عَرَج ابن بطّوطة على بلاد الشّام، وسُرّته أرض فلسطين، فَخلَّد في رحلته “تُحفَة النّظار” ما شاهده في الأمصار والعَمائر التي قَطعها في وُجهته صوبَ القُدس الشريف، فـحيث سارَ حتى وصل “إلى مدينة غزة، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر، مُتّسعة الأقطار كثيرة العِمارة، حسَنة الأسواق، بها المساجد العديدة، ولا سور عليها”.[2] ومنها توجّه الرحالة صوبَ الخليل، وهي “مدينة صغيرة المساحة، كبيرة الـمِقدار، مُشرِقة الأنوار، حَسَنة المنظَر، عجيبة الـمخبَر، في بطْنِ وادٍ، ومَسجدها أنيق الصَّنعة بديع الحسْن، سامي الارتفاع، مَبني بالصّخر المنحوت”[3].
في مدينة الخليل التي ما تزال إلى يومنا هذا تحمل نفس الاسم؛ زار ابن بطوطة قُبور أنبياء الله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وزار مكاناً مرتفعا من المدينة يُعرَف بتربة لوط عليه السلام، يُطِلَّ على الشام ويَضمّ قَبر نبي الله لوط، وفي محيطها صلى في مسجدِ “اليَقين، وهو على تَلٍّ مرتفِعٍ له نور وإشراق ليسَ لِسِواه، ولا يُجاوره إلا دارٌ واحدة يَسْكُنها قَيِّمه”[4].
وفي الطريق الرابطة بين الخليل والقدس الشريف، يُصوِّر لنا الرحالة المغربي جغرافيةَ وطبيعةَ قُرى ومُدن أخرى، ذَكَر منها؛ تُربة يونس عليه السلام ومسجد القرية، ومدينة بيت لحم، فمدينة القدس؛ “البلدة الكبيرة الـمُنيفة بالصَّخر الـمنحوت”[5].
وعلى غرار سابِقِيه من العلماء والرحالة والـحجّاج الذين ألَّفوا في مدائح المدينة الـمقدّسة وذِكْر عُمرانها ومكانتها وجغرافيتها وسُكّانها ورِباطاتها ومَن قَطنها من المجاهدين والـمرابِطين والصالحين؛ يتوقَّف المؤرخ الرحالة ابن بطوطة مَلِيا عند شواهِد معمارية خالدة في مدينة القدس، على رأسها المسجد الأقصى المبارك، وقبة الصخرة، وحائط البراق، وكنيسة القيامة، وباقي الأماكن الروحية والدينية.
مساجد ومعابد.. التغنِّي بجمال القُدس
ففي غير مبالَغة _ وهو الشاهد الجائل الذي رَأى وزار كُبريات المساجد عبر العالم آنذاك _ يصِف ابن بطوطةَ المسجد الأقصى المبارك بأنه مِن “المساجد العجيبة الرّائقة الفائقة الـحُسن، ليس على وجه الأرض مسجد أكبر منه (..) له أبواب كثيرة في جهاتِه الثَّلاث (..) والـمسجد كلّه فضاء غير مُـسَقَّفٍ، إلا المسجد الأقصى فهو مُسقَّفٌ في النِّهايَة من إحكامِ الـعَمل وإتقان الصَّنعة، مُـمَوَّهٌ بالذَّهبِ والأصْبِغة الرائقة”[6].
أما قُبة الصّخرة فقد أثارت إعجاب رحّالَتنا، بحيث ألْفَاهَا مِن “أعجَبِ الـمباني وأَتْقَنها وأغربها شَكْلًا (..) قائمةٌ على نَشْزٍ في وسْط الـمسجد، يُصعَد إليها في درجِ رخام، ولها أربعة أبواب، والدائر بها مفروش بالرخام مُحكَم الصَّنعة، وكذلك داخلها، وفي ظاهرها وباطِنها من أنواع الزّواقة ورايِق الصَّنعة ما يُعجِز الواصِف، وأكثَر ذلك مُغشَّى بالذهب، فهي تتلألأ نوراً وتَلْمَع لمعان الـبرق، يَحار بَصَر متأمّلها في محاسنها، ويَقْصُر لِسان رائيها عن تَمثيلها. وفي وسَط القُبّة؛ الصخرة الكريمة (..) تَحتَها مَغارة في مِقدار بيتٍ صغير (..) وعلى الصخرة شُبّاكان إثنان مُحكَما العَمل يُغلَقانِ عليها”[7]، واستطرَد بدِقَّةٍ متناهية ونَقْلٍ أمينٍ في وصْفِ أسفَل وأعلى القبة ومداخلها وأبوابها وجِبصها وزخارفها وما إلى ذلك.
ومِن المآثر الروحية والـمنشآت الدينية التي زارها ووصفها بتفصيلٍ؛ ضريح السيدة رابعة البَدوية، وكنيسة يُعظّمها النصارى ويَقولون “إنّ قَبْر مريم عليها السلام بها”، وكنيسة أخرى يَحجّ إليها النصارى وهي كنيسة القيامة، وموضِع مَهْد نبي الله عيسى عليه السلام.
وبَعد مُقام كريم في مدينة القدس، ارتحل ابن بطوطة إلى عسْقلان، فوجدَها خراباً “قَدْ عادَ رُسوماً طامِسة، وأطلالاً دارِسة”[8]، إلا أنّها قد حازت جمال الـجَمْع بين البَرّ والبحر، وبها مسجدٌ كبير يُعرَف بمسجد عُمر “لم يَبْقَ منه إلّا حِيطانه”[9]، وبِئرٌ اشتهَرت لدى العامّة ببركتها يُسمُّونها بِـئر إبراهيم عليه السلام، وبالمدينة مِن قُبور “الشهداء والأولياء ما لا يُحصَر لكَثْرَته”.[10]
تَوجَّه ابن بطوطة صوب الرّملة؛ وهي مدينة كبيرةٌ كثيرة الخيرات على ذلكم العهد، حَسَنة الأسواق، وبِها الجامع الأبيض. ومنها انتقل إلى نابلس، المدينة الـمخضَّرة الكثيرة الأشجار المُطّرِدة الأنهار، قال عنها أنها “أكثَر بلاد الشّام زُيوتاً، ومنها يُحمَل الزيت إلى مصر ودِمشق، وبها تُصنَع حَلواء الخروب”[11]. ومنها عَرج إلى بحيرة طَبرية حيت قضى ليلةً هناك وزار قَبر الصحابي الجليل فاتح الشّام والفُرات وجزء من آسيا الصغرى؛ أبو عبيدة بن الـجرّاح (تــــــ 18 هـ /639 م)، كما زار قَبْر الصحابي الجليل معاذ بن جبل في منطقة القُصَيْر، ثم جال في حاضرة طَبرية مستمتِعا بـ”حماماتها العجيبة”، ومسجدها المعروف بــ”مسجد الأنبياء، فيه قَبْر شُعيب عليه السلام وابنته زَوج موسى الكليم عليه السلام، وقبر سليمان عليه السلام، وقَبْر يَهودا، وقَبر روبيل”[12]، كما زار المنطقة التي كانت تضمُّ الجُبَّ الذي ألِقِيَ فيه سيدنا يوسف عليه السلام، وهو “في صَحْن مَسجدٍ صغير وعليه زاوية، والجبّ كبير عميق شَرِبْنا من مائه الـمجتمِع من ماء الـمطر”[13] يقول ابن بطوطة.
واصَل الرحالة المغربي جولاته بأرض الشام، ماراً على عكّا وصُور وصَيْدا وبيروت وسهْل البقاع وطرابلس وحصْن الأكراد، فَمدينَتا حمص وحَماة، وصولاً إلى الـمَعَرَّة وحلَب واللّاذقية ودِمشق العظيمة.
مُلاقاة الـعلماء ومُجالسة الصُّلحاء
كباقي الأقطار التي زارها؛ لم يُفوِّت الشيخ الرحالة ابن بطّوطةَ في فلسطينَ فُرصة التعرُّف على نخبتها العلمية والدينية وكبار سِلك القضاءِ فيها، فمِن غزّةَ إلى طبرية، التَقَى خيرة العلماء وحاوَر الفقهاء واستفرَد بالصُّلحاء؛ ذكَر من الأعلام الفلسطينيين العالِم والقاضي بدر الدين السّلختي الـحُـوراني، والمدرِّس السيد علَم الدين بن سالم، والإمام برهان الدين الجعبري، والخطيب عماد الدين النابلسي، والـمحدِّث المفتي شهاب الدّين الطَّبري، ومُدرِّس المالكيةِ أبو عبد الله محمد بن مُثْبِت الغرناطي، والشّيخ الزاهد أبو علي حسَن المعروف بالمحجوب، والشيخ الصّالح كمال الدين الـمراغي، والإمام العابِد أبو عبد الرحيم عبد الرحمن بن مصطفى، والفقيه تاج الدين الرِّفاعي، ومجد الدين النابلسي..، إلا أنّ ابن بطوطة لا يُحدِّثنا في هذه الجولة الشامية عن أخْذِه إجازات علمية عن العلماء الذين الْتَقى بهم، على شاكِلة ما استفاده في هذا الباب أثناء مقامه بمصر والحجاز على سبيل المثال.
خاتمة
هذه إضاءات عن أرض فلسطين، مهوى أفئدة المؤمنين من الديانات الثلاث، ومسرى رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، وأُولى القِبْلتين وثالث الـحرمين الشريفين، تَنزّلت منزلة العِشق في قلوب الـحُجّاج والعلماء والطّلبة والمجاهدين والرحالة المغاربة[14] منذ انتمَى المغرب الأقصى إلى حضارة الإسلام؛ يُقدِّمها لنا الرحالة ابن بطوطة، الذي أُثِرَ عنه الصِّدق والإسناد العالي في نقْل الـمعطيات ووصْف الأمكنة التي زارَها، وهو شيخُ أدبِ الرحلة وكَهْلُها وفَتاها وأنْبَغ جُغرافِيي المغرب الأقصى ومُستَكْشِفي العالم في العصر الوسيط.
وما تزال كثير من معالِم القدس وغزة والرَّملة وعسقلان ونابلس؛ الدينية والحضارية والمعمارية والدِّفاعية _ الأسوار والأبواب والحُصون _ ماثِلة للعِيان إلى عصرنا الحالي، مُتَرْجِمةً صِدْق ما نَقَله إلى الرحالة المغاربة من سالِف القرون وغابر الأزمان.
المراجع
[1] من تقديم ابن جُزي لرحلة ابن بطوطة، ص 151.[2] (ابن بطوطة) محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، تُحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تحقيق الدكتور عبد الهادي التازي، المجلّد الأول، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، الطبعة الأولى 1997، ص 239.
[3] ابن بطوطة محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، تُحفة النظار...، مرجع سابق، ص 240.
[4] ابن بطوطة محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، تُحفة النظار...، مرجع سابق، ص 243.
[5] ابن بطوطة محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، تُحفة النظار...، مرجع سابق، ص 244.
[6] ابن بطوطة محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، تُحفة النظار...، مرجع سابق، ص 246.
[7] ابن بطوطة محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، تُحفة النظار...، مرجع سابق، ص 247.
[8] ابن بطوطة محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، تُحفة النظار...، مرجع سابق، ص 252.
[9] ابن بطوطة محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، تُحفة النظار...، مرجع سابق، ص 252.
[10] ابن بطوطة محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، تُحفة النظار...، مرجع سابق، ص 254.
[11] ابن بطوطة محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، تُحفة النظار...، مرجع سابق، ص 254.
[12] ابن بطوطة محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، تُحفة النظار...، مرجع سابق، ص 260.
[13] ابن بطوطة محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي، تُحفة النظار...، مرجع سابق، ص 260.
[14] انظر: (العياشي) عبد الله بن محمد: "الرحلة العياشية 1661 – 1663"، تحقيق وتقديم سعيد الفاضلي، سليمان القرشي، الطبعة الأولى 2006، دار السويدي للنشر والتوزيع – الإمارات العربية المتحدة. وأيضا: (ابن جبير) محمد بن أحمد الكناني الأندلسي: "تَذكرة بالأخبار عن اتّفاقات الأسفار"، نسخة بالمكتبة الملكية بالرباط، عدد 5855. وأيضا: (الزياني) أبو القاسم: "الترجمانة الكُبرى في أخبار المعمور بَرّا وبَحـرا"، تحقيق وتعليق عبد الكريم الفيلالي، دار نشر المعرفة للنشر والتوزيع، الرباط، الطبعة الثانية، 1991.