توطئة

إن التكامل المعرفي بين العلوم له عمقٌ تاريخي وأصالةٌ زمنية، فهو قديم قِدَم تلك المعارف والعلوم نفسها، فالعلم لا ينشأ بمعزل عن غيره، بل تتضافر العلوم وتتكاتف ويكمِّل بعضها بعضًا، حتى تشكِّل بمجموعها نسيجًا ثقافيًا وحضاريًا لشعب من الشعوب، أو للبشرية جمعاء.

وكل العلوم مطلوبة إما ابتداء أو تبعًا، وإلى هذا المعنى يشير عالم أهل الأندلس ابن رشد الحفيد حيث قال: «إنَّ العلوم صنفان: علوم مقصودة لذاتها وعلوم ممهدة للإنسان في تعلم العلوم المقصودة لنفسها»[1]. فعلوم الوحي تحتاج العلوم الإنسانية في التأصيل والاجتهاد، والعلوم الإنسانية تتطلب مستويات مادية وأخرى روحية.

ويقصد بالتكامل المعرفي بأنه الصورة العلمية المتكاملة للوجود والذات، المتحققة بتفعيل الرؤية الإسلامية في كل مجالات المعرفة، سواء أكانت علومًا طبيعية أم اجتماعية أم إنسانية أم شرعية.[2]

ويمثل كتاب “تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية” للدكتور إبراهيم عقيلي نموذجا جاداً للقراءة المعرفية لآثار شيخ الإسلام بن تيمية وعرضا تحليلياً للمنهج المعرفي المتكامل الذي التزمه ابن تيمية في أبحاثه ودروسه ومناقشاته مع مختلف الفرق والملل السابقة لزمنه والمعاصرة له، كما أنه يمثل بياناً لمصادره المعرفية التي استقى منها، ولموازنته التي احتكم إليها في نقد تراث السابقين وتمييز طيبه من خبيثة، بما يساعد على الفهم الدقيق لتراث الشيخ، ويمنح الباحثين القدرة على استيعابه وحسن تمثل قضاياه.

تقديم الكاتب

الدكتور إبراهيم عقيلي، من مواليد منطقة أولاد غانم بالجديدة (وسط المغرب) سنة 1958م، أتم بها تعليمه الأساس حتى نال الباكلوريا سنة 1979م، أكمل دراسته الجامعية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية محمد الخامس بالرباط، وحصل على الإجازة في الدراسات الإسلامية سنة 1984م، وتخصص في دراسة الفكر والحضارة ونال دبلوم الدراسات العليا من نفس الكلية سنة 1986م، ثم نال درجة الدكتوراه. عمل أستاذا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية –جامعة شعيب الدكالي- بالجديدة. اهتم بقضايا العقيدة والمستقبل الحضاري والدراسات التأصيلية في الفكر الإسلامي الحديث من خلال الرؤية الإسلامية.

مضامين الكتاب

إن الأزمة الفكرية في عهد ابن تيمية بلغت أوجها، واستفحل أمرها وامتدت امتدادا سرطانيا جعلها تبسط ظلها البغيض على جوانب التصور والاعتقاد، والمنهج والمصادر والعلاقات والمعاملات والسياسة والاقتصاد ونواحي العمران المختلفة، ومنها السلوك والأخلاق وأساليب التدين. ولقد تغير فهم الناس للدين ذاته تغيرا شمل أهم جوانبه البنائية والوظيفية، وشل فاعليته، بل لقد أدت البدع والانحرافات إلى ظهور كثير من السلبيات والممارسات المنحرفة والتصرفات التي ألبست لبوس الدين.

ويعرض الكتاب بالبيان والتحليل المصادر المعرفية التي اعتمد عليها ابن تيمية، وكذا المعايير والموازين التي بنى عليها آراءه في نقد تراث سابقيه، وتمييز حسنه من قبيحه، وهذا المنهج بدوره يسهل على القارئ الفهم الدقيق لتراث ابن تيمية، كما يسهل على الباحثين حسن استيعابه مع تمثل وهضم أفكاره وقضاياه.

وقد تناول الكاتب عصر ابن تيمية علمياً واجتماعياً وسياسياً، وبين مظاهر الأزمات الفكرية والثقافية التي بلغت أوجاً في ذلك العصر. وتناول حياة شيخ الإسلام الفكرية والإصلاحية، ثم أفراد لمنهجه في البحث أبواباً ثلاثة؛ أبرز فيها طريقة في الاحتجاج باللغة وشروطه، وطريقه في الاحتجاج بالنقل عن الأصول والاستنباط منها، وطريقة في الاحتكام إلى العقل وحدود الاستدلال به. فأوضح لنا تكامل المنهج المعرفي لدى شيخ الإسلام ابن تيمية، أحد رموز الحضارة الإسلامية البارزين، وأحد الرواد الذين امتد تأثيرهم إلى يومنا هذا، بما خلفه من أعمال موسوعية شاملة، استفادت منها سائر حركات الإصلاح التي جاءت بعده.

إن الاهتمام بمناهج التفكير والبحث العلمي كان من القضايا الأساسية التي ركز العلماء جهودهم، واستقطبت العديد من الدارسين الذين سعوا إلى التعرف على طرق البحث والتفكير عند الأوائل، والوقوف على معاييرهم في وزن المعارف الصحيحة، وأدواتهم في النقد والتمحيص، وأسسهم النظرية التي بنوا عليها أبحاثهم.

وتوخى المؤلف، في كتابه الصادر المعهد العالمي للفكر الإسلامي ضمن سلسلة الرسائل الجامعية “إسلامية المعرفة”، والذي  قدم له الدكتور طه جابر العلواني الطبعة الأولى سنة 1994م، توضيح معالم المنهج المتكامل الذي التزمه ابن تيمية في أبحاثه ومناقشاته، مع مختلف الفرق والنحل والملل السابقة لعصره، وأن يبين المصادر المعرفية التي استند إليها، والموازين التي احتكم إليها في نقد تراث السابقين وغربلته.

لقد اعتمد تقي الدين ابن تيمية في نقده لمختلف المعارف على الاحتكام إلى طرق العلم الثلاث التي حددها في الحس والعقل والخبر، والاحتجاج باللغة في تحديد معاني الألفاظ، والمصطلحات التي يتعامل معها،. وهذه الأسس المنهجية هي التي قصد المؤلف بيانها بتفصيل في مؤلفه.

وقد مهد لموضوعه بباب تناول فيه عصر ابن تيمية من الناحية العلمية والاجتماعية والسياسية، وكذلك حياته العلمية، ومرتكزات دعوته الإصلاحية والملامح العامة لمنهجه في البحث والتأليف. وفي الباب الثاني بين منهج ابن تيمية في الاحتجاج بالنقل، فتعرض لمكانة النقل عنده كمصدر أساسي للمعرفة الصحيحة، ووقف على الخصوص عند منهجه في تفسير القرآن سواء من جانبه النظري أو التطبيقي، وعند منهجه في الاستنباط الفقهي والأصول التي اعتمدها فيه لاسيما الكتاب والسنة والاجماع والقياس.

وفي الباب الأخير تناول منهجه في الاحتكام إلى العقل، فبين مكانة العقل عنده في تحصيل المعرفة، وحدود المعرفة العقلية وفشل المتكلمين في الاستدلال بها على قضايا العقيدة، كما بين منهج تقي الدين في الاستدلال العقلي، وتحدث عن علاقة الحس بالعقل وعلاقة التجربة الحسة به أيضا.

خاتمة

يمثل هذا الكتاب نموذجا جاداً للقراءة المعرفية لآثار شيخ الإسلام بن تيمية وعرضا تحليلياً للمنهج المعرفي المتكامل الذي التزمه ابن تيمية في أبحاثه ودروسه ومناقشاته مع مختلف الفرق والملل السابقة لزمنه والمعاصرة له. كما أنه يمثل بياناً لمصادره المعرفية التي استقى منها، ولموازنته التي احتكم إليها في نقد تراث السابقين وتمييز طيبه من خبيثة، بما يساعد على الفهم الدقيق لتراث الشيخ، ويمنح الباحثين القدرة على استيعابه وحسن تمثل قضاياه.

لقد حاول المؤلف التدليل على مفهوم التكامل المنهجي عند ابن تيمية، وكيف استفاد من جميع طرق المعرفة الممكنة فلم يلغ بعضها لحساب بعض، وإنما عمل بكل طريق في مجاله. ونظر إلى كل مصادر العلم على أنها متكاملة ومتداخلة لا مستقلة ومتباينة، وألغى المحاولات السابقة للتلفيق بينها على أساس أن بعضها تابع لبعض مطلقا. وقد خلص المؤلف إلى أن المصادر المعرفية كلها حق في نظر ابن تيمية، والحق لا يضاد نفسه، وبالتالي فالعلاقة الجائزة بينها هي علاقة انسجام وتكامل.

المراجع
[1] الضروري في صناعة النحو، لابن رشد الحفيد، ص 99.
[2] مقال: التكامل المعرفي ودوره في قيام الحضارة الإسلامية وبناء الأمة المحمدية، لياسين مغراوي، مدونة «تعليم جديد».