توطئة

يَرجع تاريخ علاقات المغرب بمحيطه الإفريقي إلى عصور قديمة، تداخَلَت في نسْجها عوامل عِدَّة لا تكاد تتفاوت في الأهمية، سواء الاقتصادية والتجارية والدينية والثقافية والسياسية،[1] جَعَلت مِن الدّبلوماسية المغربية-الإفريقية مَطبوعةً بنوع مِن التَّمَيٌّز على المستوى القاري.

وتَعُود العلاقة الوطيدة بين المغرب وإفريقيا، وبالأخصّ دول إفريقيا جَنوب الصحراء وغرب إفريقيا؛ إلى فترة العصر الوسيط، وبالتحديد إلى عهد الدولة المرابطية التي انطَلَقت أساسا مِن جوارِ أبْرَز المحاور التّجارية الصحراوية.[2] إذ شَكَّلَ الجنوب عُمقا إستراتيجيا للمغرب، تجلّى بوضوح وأهمية في فترة الحكم السَّعدي، حيث اتّجهت إرادة أحمد المنصور الـذَّهَبي جنوبا إلى بلاد السودان الغربي، لأسباب اقتصادية وإستراتيجية وأمنية.

واستمرَّت العلاقات بين المغرب والسودان الغربي إلى فترات متأخرة مِن القرن الثامن عشر، حيث يُوجد بإحدى خزائن تمبوكتو بدولة مالي رسائل مختومة بطابع السلطان العلوي عبد الرحمان بن هشام (1849-1860)، مُوَجَّهَة لعاملهِ في الصَّحراء والسودان.[3]

الاستثمار في المرجعيات الدينية بإفريقيا

منذ بداية الألفية الجديدة؛ حاول المغرب الاعتماد على الرّوابط الثقافية التي تربطه بدولٍ إفريقية عديدة، خاصة في منطقة غرب إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، ذات الأغلبية المسلمة، وذلك بالاستثمار الإيجابي في الـمُشتَرَك القائم بينه وتلك الدول على مُستوى المذهب المالكي والتصوف السنوي والقراءة القرآنية بطريقِ ورْش عن نافع، وعَبْر توظيف امتداداته الدّينية والثقافية في الطّرق الصوفية،[4] مُتَرَقيا بها صوبَ وظيفة الدبلوماسية الروحية، وهي الطّريقة الصوفية السنية المنتشرة في المنطقة، والعائدة بجذورها إلى بلاد المغرب الأقصى. بالإضافة إلى تعزيز التبادل الثقافي بينه وبين تلك البلدان، واستِقبال البِعثات الطلابية الإفريقية، وتَمويل مشاريع مشتركة في هذا المجال عبر الوكالة المغربية للتعاون الدولي.

إمارة المؤمنين.. رافِعةُ الفِعْل الدبلوماسي الديني بإفريقيا

راكَمَت الدبلوماسية المغربية خطوات ملموسة على طريق تقْوية اختيارها الإفريقي، وتعزيز حضورها في القارة الحبلى بالفرص والإمكانيات والاتفاقيات، ففي وقت قصير؛ تَتالَت زيارات العاهل المغربي محمد السادس لتَشْمَل عدداً من الأقطار الإفريقية، تَشترك في الفرص والمشاريع، وتتوحَّد في الصعوبات والتحديات. وخلال تلك الجولات؛ أكَّد المغربُ أنَّ تَوجُّهه الإفريقي ليس مجرّدَ عملٍ عرضيٍ أو ظرفي، ولا حتى نشاطاً تكتيكياً يَزول بزوال أسباب نزوله. بل فعلاً إستراتيجيا يَرُوم المغرب _ أسوة بدول وقوى دولية وازنة كثيرة– من ورائه أنْ يكون له حضور قَوي ومتنوّع في منطقة تُعَدُّ عُمقَه الجنوبي، وواحدة مِن أكثر الجهات حَساسيةً لأمْنه الوطني العام.

وتأسيساً على تلكم الزيارات واللقاءات التي عَقدها الملك بصفته أميراً للمؤمين؛ رَبطت المغربَ عِدّة اتفاقيات ثنائية مع الدول الإفريقية، هَدَفَت إلى تأهيل المغرب لأئمة هذه الدول بطلبٍ منها، وهي تونس وليبيا ومالي والسنغال وغينيا وساحل العاج والغابون، كما طَلبت أيضًا دول أوربية، مِن بينها فرنسا، مِن المغرب تأهيل أئمة مساجدها.[5]

ومما تعزَّز به الإشعاع الديني للمغرب في السنوات الأخيرة، إحداث لمؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة،[6]وإشراف العاهل المغربي بصفته الدينية أميراً للمؤمنين على توطيد الصِّلاتِ إفريقيا، وإعطاء بُعدٍ عالَمي بنموذج تدبير المسألة الدينية، حيثُ كثَّف فيما بين 2013 – 2018 مِن الإجراءات والقرارات والأنشطة الخادِمة للدبلوماسية الدينية.

فقَد استَقْبَل شيخ الأسرة التيجانية العمرية بدَكار، واستقبَل الناطقَ الرسمي الجديد باسم نفس الأسرة بمدينة تيواون السينغالية وشقيق الخليفة العام لأسرة (نياس) بمدينة كولك، وكذا الناطق باسم أسرة لايان يوم 16 مارس 2013، واستَقبلَ الملك وفدا عن المجلس الأعلى للأئمة ساحل العاج يوم 20 مارس 2013، ووفْدا عن المجلس الأعلى للشؤون الدينية بدولة الغابون يوم 27 مارس 2013. كما ترأَّسَ الملك مع رئيس دولة مالي حَفل التوقيع على تكوين أئمة دولة مالي بتاريخ 20 شتنبر 2023، وأعطى الموافقة على طلبات التعاون في تدبير الشأن الديني مع كُلٍّ من تونس وليبيا وغينيا وكوناكري بتاريخ 20 فبراير 2014، واستجاب لطلَب تأطيرِ أئمة ودُعاة إيفواريين بالمغرب (28 فبراير 2014)، وخَصّ المترشّحين الأجانب المقبولين لولوج سلك الإجازة في القراءات والدراسات القرآنية؛ بمعهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية (11 سبتمبر 2014).

مؤسَّسات السلطة الدينية في خدمة الأهداف الدبلوماسية

نظراً لمكانتها الهامة والعريقة في تدبير الحالة الدينية بالمغرب؛ ساهمت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في تعزيز حركية الدبلوماسية الدينية للمغرب، من خلال عقَد ندوة صحفية بالأمم المتحدة (30 شتنبر 2014) حول الشأن الديني وخِبرة المغرب في مكافحة الإرهاب والتطرف الديني، والتوقيع على برنامج تنفيذي لاتّفاق تعاون في مجال الأوقاف والشؤون الإسلامية مع مملكة البحرين بتاريخ 25 أكتوبر 2016، واتّفاق آخر مع دولة الصومال في مجال التعاون الإسلامي يوم 20 يوليوز 2016، وإبرام اتفاقية للتعاون في مجالات الشّؤون الإسلامية والتعليم العتيق والمساجد والأوقاف مع جمهورية تانزانيا بتاريخ 11 شتنبر 2017.

والمشاركة في إيصال رسائل تهنئة أو تعزية صادرة من الملك إلى الأشقاء المسلمين في بعض الدول الإفريقية، من ذلك؛ تَسليم برقية تهنئة إلى الشيخ سيرين أمباي سي منصور الخليفة العام للطريقة التيجانية بدولة السّينغال، وبرقية تعزية ومواساة إلى أسرة الشيخ إسحاق رابع مقدّم الطريقة التيجانية بجمهورية نيجيريا.

والعمل على تطوير وتجذير وظيفيات الدروس الحسنية الرمضانية[7] التي أَضْحَت تَشغَل مَهمة الإشعاع الخارجي للمغرب، دينيا وسياسيا، وعلى مُستوى العلاقات بهيئة العلماء بالأقطار العربية والإسلامية، وأخَذَت موقِعها كمِنصة لتَمرير الإسلام المغربي وتأطير المواطنين دينيا. وتُعدُّ جزءً مِن الدبلوماسية الدينية “في تسويق النموذج الوطني في تدبير الحقل الديني القائم على عنوان تَفَرُّد الإسلام المغربي عربيا وإسلاميا وإفريقيا، لارتكانه [إلى] هيمنة المؤسسة إمارة المؤمنين في التوجيه الديني الرسمي”[8] للمغرب والمغاربة”.

خاتمة

إنّ الاستثمار العمومي في الدّين، المقرون بدبلوماسية دينية قوامها التصدير للإسلام المغربي الرسمي، صارت “تُظهِر أنّ العاهل المغربي يَتمتّع بسلطة معنوية وروحية تتجاوز الحدود الجغرافية للمغرب. فالأسفار التي يقوم بها العاهل المغربي في بلدان جنوب الصحراء، والاستقبالات التي يَخصّ بها كبار العلماء والمشايخ، والدّعم الذي يُقدِّمه للزوايا، وصلاة الجمعة التي يؤدّيها حينما يحلّ بتلك البلدان، والـخُـطَب التي تَـمْتَـدِح فِعله، فضْلا عن إنشاء مساجد ببعض الدّول الإفريقية وإطلاق اسم “محمد السادس” عليها، وتوزيع المصحف المحمّدي، وارتداء الملِك للباس تقليدي وغطاء، وتَرك لِحية خفيفة، واحتضان طلبة أفارقة بمعهد محمد السادس لتكوين العلماء الأفارقة (..)؛ كل ذلك يؤكّد الـبُعد العالمي لمؤسَّسة إمارة المؤمنين،[9] وَتَوَجُّه النَّظرَ والعمل الدّيني الرسمي إلى الاستثمار العمومي في الدِّين، أوقافاً ومؤسساتٍ ودبلوماسيةً؛ وتأميم احتكاره وتأويله وتدبير شأنه.

المراجع
[1] (شريف) إبراهيم: "العرب وإفريقيا؛ رهان الحاضر والمستقبل" مجلة الوحدة ، عدد 98 أكتوبر 1992.
[2] (بن أبي زرع الفاسي) علي: "الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس"، الطبعة 2، الرباط، المطبعة الملكية، طبعة 1999.
[3] (يحي) بولحية: "محدّدات السياسة الخارجية المغربية تجاه دول غرب إفريقيا وجنوب الصحراء"، مجلة سياسات عربية، العدد1، شتنبر 2014، ص: 84.
[4] تقرير: "الحالة الدينية بالمغرب 2016-2017"،منشورات المركز المغربي للدراسات والأبحاث المعاصرة، الرباط، ص: 82.
[5] دراسة: "المغرب: المقاربة الاستباقية والدينية في محاربة الإرهاب"، فرانس 24، بتاريخ27 نوفمبر 2015،انظر الرابط:com.france24.www.
[6] (جملي) إبراهيم: "1999- 2017؛ جهود ملكية دؤوبة من أجل تحصين الحقل الديني وتعزيز قيم الاعتدال المتضمنة في الدين الإسلامي الحنيف"، مقال منشور بالموقع الإلكتروني hespress.com، بتاريخ 11 يوليوز 2017.
[7]انظر: "كرونولوجيا تاريخ المغرب؛ من عصور ما قبل التاريخ إلى نهاية القرن العشرين"، إشراف وتقديم (القبلي) محمد، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، مطبعة المعارف الجديدة – الرباط، الطبعة الأولى 2016، ص: 225
[8] (منظور) عبد الرحمن الشعيري: "النخبة الدينية في النسق السياسي المغربي؛ العلماء أنموذجا 1999 - 2013"، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، تخصص العلوم السياسية، السنة الجامعية 2014 – 2015، نوقِشت بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، جامعة عبد المالك السعدي، طنجة، نُسخة ورقية، ص: 105.
[9] (ظريف) محمد: "الإسلام السياسي في المغرب؛ مقاربة وثائقية"، منشورات المجلية المغربية لعلم الاجتماع السياسي، الطبعة الثانية، شتنبر 1992، ص: 118 – 119.