المحتويات
مقدمة
بالرغم من النجاح الجماهيري الباهر الذي حققه الغيوان منذ ظهورهم أوائل السبعينيات. ذلك الظهور الانقلابي الذي سحب البساط من تحت جميع الأولوان الغنائية الرائجة في ذلك الإبان، فإن الإعلام الثقافي والفني قلما نظر إليهم بغير نظرة الريبة والتجاهل بل اللمز والتشهير.. وهو أمر يتضمن لغزا كبيرا لا سبيل إلى فهمه بغير التأمل الفاحص للمشهد السوسيوثقافي برمته.
ولو كان هذا الموقف مقتصرا على الإعلام الرسمي لهان الأمر وسهل التأويل، ذلك أن الغيوان رغم خفوت الوازع السياسي المباشر لديهم كانوا قد برزوا للوجود وهم محاطون بلفيف من مثقفي اليسار ممن يناهضون الفن المأجور ويقاطعون حلقة الغناء الرسمي، فضلا عن أن مظهرهم البوهيمي، الذي كان الماسكون بالسلطة يتأففون منه، لم يكن موضع ترحيب أو احتفاء رسمي يذكر.. على الأقل في بداية ظهورهم.
ومهما يكن، فقد عاشت تجربة الغيوان منذ نشأتها وضعيه تحبل بالمفارقة، فمن جهة هناك الترحيب الشعبي الكاسح الذي احتضن الظاهرة وغالى في الإعلاء من شأنها خاصة من لدن الجماهير الطلابية والنخبة المثقفة. ومن جهة أخرى جاءت الكتابات النقدية المواكبة لها على العكس من ذلك مخيبة للآمال بل وتبعت على الإحباط في معظم الأحيان.
السياق الثقافي لظهور مجموعة ناس الغيوان
ومن جملة مفاتيح هذه الوضعية أن ظهور الغيوان تزامن في الثقافة المغربية مع انتشار المد الأيديولوجي الذي كان يعطي الأولوية في النقد والتحليل للاعتبارات السياسية والفكرية ويرفع شعار الالتزام كمبدأ أساسي لا محيد عنه، ومن هنا شعر النقاد المؤدلجون بالحيرة أمام هذا الالتفاف الجماهيري العارم الذي استفاد منه الغيوان والذي لم يكن من الممكن تفسيره عندهم بغير الانبهار الذي كان الشعب “ضحيته” عندما ظن أنه عثر أخيرا على ضالته في هذا اللون الغنائي “البديل”.
وهذا ما يفسر تلك المطالب المستحيلة التي راح بعض هؤلاء النقاد يواجهون بها المجموعة الغنائية الفتية، كدعوتها إلى “تحديد موقفها الطبقي الذي يجب أن تصدر عنه لبلورة الأبعاد الاجتماعية والتاريخية”، أو مؤاخذتها لأنها لم تناهض صراحة “الفكر الرجعي الذي غرس جذوره في بنية المجتمع مشحونا بمفاهيم غيبية ورؤى أسطورية وبتعاليم أخلاقية استسلامية”، وأخيرا مطالبتها بأن “تؤطر العنف الشعبي وتوجهه وجهته التاريخية”.[1]
ومن الواضح أن أعضاء الغيوان، بثقافتهم المحدودة ووعيهم السياسي الطفولي، ما كان بوسعهم أن يستوعبوا هذه التصورات المعقدة التي طوقتهم بها الأنتليجنسيا ولا كانوا يملكون الوسيلة للرد عليها أو التجاوب معها.. لكن شيئا خبيثا في أعماقهم كان ينذرهم بخطورة ما كانوا خائضين فيه ويجعلهم قاب قوسين أو أدنى من ادراك طبيعة المسار الصعب الذي وضعوا فيه أنفسهم.
لكن مما كان يثلج صدورهم أن هؤلاء النقاد أنفسهم كانوا يستهلون مقالاتهم بالاشادة بتجربتهم التي ظلت توصف بأنها “منعطف أساسي للأغنية المغربية”، وبأنها شكلت “التجاوز الموضوعي لأغنية المناسبات والابتذال ومثلت البديل الجيد شكلا ومضمونا”.
تجربة ناس الغيوان في محك نقد أهل الفن
وإذا كنا اليوم نتفهم قساوة هؤلاء النقاد الذين جبلوا على النظر الايديولوجي الصارم. والمماحكة الفكرية التي تحاسب التجربة في أدق ملامحها وتضعها على محك الاختيار معطية أياها أدوارا تتجاوز بما لا يقاس موقعها كفرقة موسيقة متواضعة المحتذ ومحدودة التأثير وخاصة غير معنية بالشأن السياسي المباشر.
وفي مقابل هذه النقود، التي تأخذ بالتصور الايديولوجي المفعم بقيم النضال والالتزام، برزت إلى الوجود أشكال أخرى من النقد جارحة وتجنية ولا ترى في الترجمة سوى مظهرها السلبي بل التآمري، كتلك التي اعتبرت أغاني ناس الغيوان “تنازلا رخيصا ورضوخا لضغوط الطبقة المحتكرة التي تريد تمييع الظاهرة واسقاطها في الابتذال وخدمة المنابسات”، أو تلك التي رأت في أغاني من قبيل (الحصادة) و(الهمامي) مثلا تكريسا لواقع الضياع واليأس الذي ترزح فيه الجماهير العريضة وتأبيدا لحالة الاغتراب والتذبذب البورجوازي الصغير… الخ، أو تلك التي فهمت مخاطبة الغيوان لجماهير الطلاب والمثقفين والموظفين الصغار على أن المقصود بها هو إدارة الظهر لطبقة العمال والفلاحين والمهاجرين “أصحاب المصلحة الأولى في التغيير”، ودليلا على تورط الغيوان في مؤامرة مشبوهة مسكوت عنها…
وخارج دائرة هؤلاء وأولئك ارتفعت أصوات فئة من المعنيين بالشأن الموسيقي والفني تحديدا لتقول كلمتها في “النازلة الغيوانية” بطريقة بدت أحيانا خالية من اللطف واللباقة.. خصوصا آتية من فنانين رقيقين لهم مكانتهم في الوجدان الشعبي الذي انبثق منه الغيوان أنفسهم.
ومن ذلك رأى الموسيقار الراحل أحمد البيضاوي الذي لم يعدل منه إلا أواخر حياته عندما شاهد المقام الذي آلت إليه الأغنية الغيوانية وطنيا وعربيا. وهو الرأي الذي لم يكن يخرج فيه عن التنقيص وقلة الاعتبار الذي كان المرحوم يسحبه على كل أشكال الموسيقى الشعبية التي تقع برأيه خارج دائرة الابداع وتدخل مدخل التعبير الفطري والبدائي.
وكذلك فعل الباحث الموسيقي الراحل محمد الرايسي الذي عاب بلهجة حادة على الغيوان افتقارهم إلى المعرفة بالعلم الموسيقي وجهلهم بالهارمونيا واتهمهم بافتعال الضجيج وتكريس غناء العلب الليلية وتشجيع الضحالة… الخ.
ومن بين المآخذ الفنية الأقرب إلى الموضوعية تلك التي ترددت بصدد تعامل الغيوان مع التراث الشعبي ورأت أنهم لم يطوعوه بما يكفي ليوافق التذوق الجديد وإنما اكتفوا بنقل قوالبه الجاهزة دون تطوير يذكر.. ونظرت إلى اقتصارهم على الآلات العتيقة باعتباره نوعا من القصور سجنهم في مقامات موسيقية رتيبة لا تقوى على التعبير عن روح العصر (عبد الله قانية).
وقبل ذلك، جاء من يقول في أواسط السبعينات أن موجة الغيوان ظلت حبيسة ألوان موسيقية اثنوغرافية (الكناوي، الحمدوشي، أقلال ودقة أهل توات..) مما جعلها تتحول “لوحة فولكلورية تقدم لهواة الآثار القديمة” وتعطي الدليل على تعامل “ناقص ومبتور” مع التراث.
تجربة ناس الغيوان في محك نقد الكتاب
وتسجل بداية الثمانينات انخراط الزجال أحمد المسيح في السجال الدائر حول الغيوان بواسطة مقالة نارية نشرها في الملحق الثقافي لجريدة (المحرر) تحمل عنوانا ملغوما بعض الشيء (احذروا الغيوان) يمزج فيه الاشادة الساخرة بالظاهرة والتنبيه إلى الانزلاقات الكثيرة المحتملة التي تتهددها. وقد كان المسيح يلمح إلى نقائص انخراط الأغنية الغيوانية في بعض الأوساط الهامشية، الهيبية والعدمية، وتحولها إلى رمز لمرحلة تعيش على البوهيمية والانتظارية بدل أن تستمر كأعنية شعبية يراد فيها للابداع أن يؤكد التزامه ويسجل انحيازه لصفوف الذين انبثقت من صلبهم.
وكذلك فعل الشاعر حسن نجمي في مقالة تحليلة نشرها سنة 1983. أثار فيها العديد من القضايا النظرية والجمالية التي لها صلة بالتجربة الغيوانية، ويبدو أن أحدهم ممن كانوا يحيطون بالغيوان قد أوَّل لهم المقالة على نحو آثم بحيث استفزت أعضاء الغيوان واعتبروها نقدا هداما لتجربتهم ولا تترك لهم أية فضيلة في دائرة الأدب الشعبي الذي يرفعون شعاره.. وإلى اليوم مازال نجمي على رأيه في أنه كان يقصد إلى التقييم البناء والايجابي لما حققته عشر سنوات من مسيرتهم الغنائية وأن ما كتبه إنما جرى تأويله تأويلا مغرضا لا يشعر أنه مسؤول عنه هو الذي ظل يعتبر نفسه دائما نصيرا للتجربة الغيوانية وأحد الذائدين بقوة على مكانتها وتراثها.
ولابد لنا في هذا السياق الاسترجاعي أن نعرج على أهم مساهمة مبكرة اتجهت إلى تقييم عطاء الغيوان وذلك عبر الوقوف عند دراسة حنون مبارك الموسومة (ظاهرة ناس الغيوان) التي قدمها أواسط السبعينيات لنيل الاجازة في الأداب بفاس سنة 1975 تحت إشراف الدكتور حسن المنيعي، ثم نشرها له الشاعر محمد بنيس في مجلته (الثقافة الجديدة) سنة 1977 قبل أن تصدر في كتيب مستقل فيما بعد[2]. وعدا الأهمية التاريخية التي تكتسبها هذه الدراسة بحكم السبق الذي حققته في تناول الظاهرة في هذه الفترة المبكرة من نشوئها، فانها تقدم باليد الأخرى صورة عن التعامل الأكاديمي الذي يتوخى التحليل باعتماد النصوص في المقام الأول والتجرد قدر الامكان من النظرة الذاتية التي قد تحجب عن الباحث حقيقة ما يبحث عنه.
ومنذ البداية لا يخفى حنون تعاطفه مع الغيوان الذي يرى في تجربتهم هاته (تجربة البحث عن كيمياء تصل صراع الانسان الحاضر بمواطئ قدميه في السابق) اشارة منه إلى مزواجة المجموعة بين الحداثة والتراث، ثم يكرس فصلا كاملا للبحث في عوامل نشوء الظاهرة رابطا اياها بالأحداث التاريخية والوقائع السياسية (حرب 1967 مثلا) قبل أن يخلص إلى مقارنته بظاهرة قريبة العهد آنذاك تمثلها أغاني فؤاد نجم والشيخ إمام التي كانت قوية الحضور في الأوساط الطلابية.
ويمضي حنون بعد ذلك بعيدا في تأويل الظرفية التي انجبت هذه المجموعة الغنائية قائلا: “تحت ضغط هذا الجو المشحون وتحركات السبعينيات الرافضة للترميم انطلق ناس الغيوان ضد التداعي الغنائي، وقد كان من اللازم أن يخرجا من صلب هذه الحركة لا من السطح…” ونحن نظن ظنا قويا أن جماعة الغيوان البسيطة لم تكن تماما كما يصفها صديقنا حنون في كثير من أطراف دراسته، فهي لم تناضل أو تحلم أو ترفض أو تدين على ذلك النحو البطولي والملحمي الذي توصل إليه من خلال تحليل أغانيها. كما لم تثور الأغنية الشعبية المغربية “في أحيانها لتراث شفوي مقموع وفي طابعها السياسي الرافض…” وإن كان نتفق معه في كونها انزاحت من ابتذال الأغنية الشعبية الرسمية وخلصتنا من ميوعتها عن طريق التغلغل السريع في أوسع قاعدة جماهيرية.
على أن حنون سرعان ما يغادر النظرة العاطفية المشبوبة إلى رصانة الباحث الموضوعي عندما يقر بأن لغة الغيوان والقوالب الفنية المستعملة تقربهم من المستوى الشعبي من ناحية الشكل، بينما المضمون يظل قاصرا، ومن هنا التصدع بين الشكل والمضمون الذي لم يكن الفكر الغيواني “البورجوازي الصغير” بقادر على تدليله بسبب محدوديته وقصوره.
وأما بعد، فقد مرت أوقات على الغيوان كانوا يبتئسون فيها لما يتعرضون له من النقد والتشريح والمؤاخذة من هذا الطرف أو ذاك، معتبرين ذلك من ظلم ذوي القربى الأشد إيلاما على النفس “من الحسام المهند”… مدخلين إياه في باب القولة المأثورة “مغني الحي لا يطرب”.. ولكن إذا غادرنا الجانب السجالي من المسألة فإنه يبدو أن الفائدة المنظورة لكل هذه النقود هي الإقبال المخلص على مواكبة التجربة بمساءلتها وتسهيل انخراطها ضمن سجل جديد هو سجل الابداع الذي يمتح تميزه من استضافة التراث الموسيقي العتيق ودمجه في حساسية حديثة تقطع مع انحطاط الأغنية الشعبية المبتذلة والأغنية النخبوية الرسمية التي تدغدغ العواطف وتباشرها بطريقة رخيصة.
مجموعة ناس الغيوان بعيون الأوروبيين
على أن ما ظل يبهج الغيوان أكثر من غيره هو ما يقوله عنهم بعض الكتاب الأجانب من تقريظ بين الحين والآخر، وبهذه المناسبة أو تلك، من قبيل ما صرح به السوسيولوجي الفرنسي جورج لا بساد في شأنهم حين اعتبرهم “ثورة موسيقة وثقافية حقيقية سوف تقلب المشهد الموسيقي رأسا على عقب..”، ومعروف عن هذا الأخير اهتمامه بالظواهر الاثنوغرافية مثل كناوة وكقوس الجذبة العيساوية والجيلالية ولذلك رأى في الغيوان ممارسة تستعيد شطحات التصوف الشعبي ومواويل السماع وتبشر بانبعاث “دروشة جديدة”.
ويدخل في هذا الباب كذلك ما كتبه عنهم الروائي الاسباني نزيل مراكش خوان غويتصولو الذي رأى أن التجربة الغيوانية جاءت “لإيقاظ الضمائر والحساسيات ووضع أجوبة على القلق وعلى مطالب الشبيبة الحضرية.. وأن الغيوان بحلولهم الاستنائي في المشهد الفني لحقبة السبعينيات” لم يكتفوا بمعارضة الأذواق المهيمنة للبورجوازية الحضرية، بل قلبوا فوق ذلك تراتبية القيم الثقافية المغربية..”، على أن ما يميز تصريح هذا الكاتب ذي المواقف الأممية المعروفة هو تصديه للجذور الثاوية في أصل انبثاق ظاهرة الغيوان والتي يرى أن بروزها في الحي المحمدي، ذلك الحي الشعبي العريق، لم يكن من باب الصدفة وإنما جاء تعبيرا عن “ظواهر الانفجار الديمغرافي والبطالة وفقدان تقاليد الهوية والتغريب الفردي لبعض القطاعات الحضرية…”.
خاتمة
وبين المواقف الوطنية “المتحاملة” والتصريحات الأجنبية “المهادنة” يبقى ناس الغيوان، بتاريخهم الفني الزاخر وحضورهم الأثيري المتميز، بمثابة الذاكرة الجماعية التي سجلت أمشاجا من أفراحنا وأتراحنا، وأغنت متخيلنا الغنائي بمزيد من الروائع والآليات البديعة التي سيمضي وقت طويل قبل أن يجد ما يماثلها أو ينازعها مكانتها.
وفي جميع الأحوال، فليغفر لنا الغيوانيون حبنا القاسي.
المراجع
[1] جريدة المحرر، 25 أبريل 1976.[2] حنون مبارك، طاهرة ناس الغيوان، مجلة الثقافة الجديدة، عدد 5-6، 1 يناير 1977، ص 32-58.