تقديم

تعززت المكتبة المغربية بإصدار متميز يحمل عنوان”المجتمع المدني كمحفز وجودي لكمياء دولة الحكم الرشيد: في أهمية الوعي بالعلاقات التاريخية والمعيارية بين وظائف المجتمع المدني  ومهام ترشيد أخلاق الدولة حصريا”. وهو الجزء الأول ضمن مشروع فكري ثلاثي المستويات والأبعاد، اشتغل عليه الباحث بنفس معرفي لمدة تزيد عن عشرين سنة، وتوج  بتسجيل ومناقشة أطروحة أكاديمية لنيل شهادة الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية من جامعة محمد الخامس بالرباط سنة 2023م، حظيت من طرف لجنة المناقشة بميزة مشرف جدا مع توصية بالطبع. ويقع الكتاب في 321 صفحة، وصدر عن منشورات الخيام، وصاحبه هو الدكتور والوزير السابق الحبيب الشوباني.

تنتمي مادة الكتاب في أصل نشأتها وتحريرها لثلاثة فصول تضمنها بحث أكاديمي بعنوان: “دور المجتمع المدني في صناعة القرار العمومي بالمغرب دراسة حالة الجهوية المتقدمة بجهة درعة تافيلالت”، تم إنجازه كرسالة لنيل شهادة الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية أكدال – الرباط، التابعة لجامعة محمد الخامس. وقد جرت أطوار مناقشة الأطروحة يوم الجمعة 28 شوال 1444 هجرية الموافق 19 ماي 2023 ميلادية، أمام لجنة علمية مكونة من السادة الأساتذة: الدكتورة أمينة المسعودي رئيسة ومشرفة على البحث، وعضوية كل من الدكتور أحمد بوجداد، والدكتور حسن العرفي، والدكتور عبد العالي حامي الدين، والدكتور الحسن الجماعي، والدكتور إسماعيل العلوي، وقد منحت اللجنة العلمية درجة الدكتوراه للباحث بميزة مشرف جدا مع توصية بالطبع.

يقتضي السياق التنويه بأن هذا الكتاب – ذو الطابع النظري الخالص – هو الجزء الأول من مجهود فكري متكامل، تدور انشغالاته حول إشكالية مركزية عالجتها أطروحة الدكتوراه، والتي تلخصها مفردات السؤال الإشكالي التالي: ما حقيقة توفر المجتمع المدني المغربي على الإمكان التاريخي المتجسد في جاهزياته الفكرية والتنظيمية والتواصلية، من جهة؛ وفي وجود البيئة الدستورية والقانونية والتنظيمية والإدارية الرسمية الداعمة لأدواره ووظائفه، من جهة أخرى؛ بما يجعله فاعلا رئيسيا في صناعة القرار العمومي، وشريكا أساسيا للدولة في بناء صرح الديمقراطية التشاركية والجهوية المتقدمة، كدعامات أساسية للمواطنة ودولة الحكم الرشيد؟. (الكتاب ص 5).

مضامين الكتاب

يقع الكتاب في 231 صفحة وبعد مقدمات الكتاب من الصفحة 07 إلى الصفحة 39، نكون أمام  الفصل الأول من الصفحة 39 إلى 164 الذي حمل عنوان: إرهاصات نشأة المجتمع المدني كظاهرة سياسية في الحضارة الشرقية، وفيه مبحث أول: إرهاصات النشأة الأولى في العصور القديمة، ومبحث ثان: معالم المجتمع المدني. الفصل الثاني: من الصفحة 165 إلى 280 عنونه بعصر التمكين للمجتمع المدني في الحضارة الغربية، وعنوان مبحثه الأول هو: تطور المفهوم في الحضارة الرومانية القديمة وعصر النهضة، ومبحثه الثاني: صيرورة التمكين للمجتمع المدني في الفكر الغربي الحديث،  وخاتمة: من الصفحة 280 إلى 305 في بناء وتحليل التعريف المحين لمفهوم المجتمع المدني، في الحاجة لنموذج تفسيري لعلاقة وظائف المدني بترشيد أخلاق الدولة حصريا، وهنا نعرف دلالة العنوان الفرعي.

تتلخص الإشكالية التي تبناها المؤلف في التالي: ما حقيقة توفر المجتمع المدني المغربي على الإمكان التاريخي المتجسد في جاهزيته الفكرية والتنظيمية والتواصلية، من جهة؛ وفي وجود البيئة الدستورية والقانونية والتنظيمية والإدارية الرسمية الداعمة لأدواره ووظائفه، من جهة أخرى؛ بما يجعله فاعلا رئيسيا في صناعة القرار العمومي، وشريكا أساسيا للدولة في بناء صرح الديمقراطية التشاركية والجهوية المتقدمة، كدعامات أساسية للمواطنة ودولة الحكم الرشيد. وقد تضمنت مقدمات الكتاب مقدمتين: الأولى فلسفية: في أصناف العبوديات وسيرورات الانعتاق الإنساني، تعرض فيها إلى أن الأحوال العمرانية والثقافية للشعوب لا تزدهر  بترشيد أخلاق الفرد، بالتزكية، بل ﻷن العظماء جعلوا التزكية الأخلاقية الفردية طاقة بناء وإعداد، لا تنفصل عن جهود بناء سلطة المجتمع/ الأمة الضامنة لصيانة واستدامة الفضائل في أخلاق الفرد، بقوة “أخلاق الدولة المكتسبة من قوة أخلاق الأفراد الحاكمين، ومن قوة “سلطة المجال العام” فتجعل مؤسسات الدولة انعكاسا صادقا لقوة الإرادة الأخلاقية العامة، وبذلك تكون خادمة له بالحكم الرشيد. وتلبي حاجياتهم الاقتصادية، والاجتماعية، والحاجات السياسية.

وصنف العبوديات إلى: عبودية الإنسان للطبيعة، وعبودية الإنسان للإنسان، وعبودية الاستبداد الوطني، أو العبوديات السياسية الوطنية وهي أخطرها، وما زال نصف البشرية سجينا لها، مما دفع البشرية إلى اتخاذ مسارات للانعتاق، مسار الانبعاث المتجدد للحراكات الأممية الجيوستراتيجية، مسار  الانبعاث المتجدد للحركات التحررية المسلحة، ومسار الانبعاث المتجدد للانتفاضات المدنية السلمية القطرية، مما يؤكد أن القرن الواحد والعشرين سيشكل قرن تغيير موازين القوى لصالح الشعوب المستعمرة والمضطهدة المنقوصة السيادة. والمقدمة الثانية: مقدمة علم السياسة في مفهوم المجتمع المدني كظاهرة سياسية تاريخية، وعرف فيه علم السياسة، وتعرض لنشأة وتطور المفهوم الوظيفي المعياري للمجتمع المدني، وقد تتبع مفهوم المجتمع المدني كما تشكل ضمن سيرورة طويلة الامتداد التاريخي. وأكد أن من غايات البحث المساهمة في الكشف عن دور الحضارات القديمة في علاقتها بنشأة وتطور الأفكار السياسية، واستجلى إرهاصات المفهوم كما وجدت في الحضارة الصينية القديمة، وذلك من أجل تنسيب صورة الهيمنة الغربية المعاصرة، التي تتجاهل أدوار باقي الحضارات.

يتصدى المؤلف لمفهوم المجتمع المدني ضمن عملية حفر وتنقيب معرفي تاريخي عميق، غايته تحديد عناصر هوية “مفهوم المجتمع المدني” لضبط وظائفه التاريخية والمعيارية، كما تشكلت في سياق تراكمي لحضارات بشرية متنوعة، أهمها الحضارتين الإسلامية والغربية، وكذا تحديد مهامه التي منها استمد تاريخيا تسميته ومبرر وجوده. وبناء على ما سبق، تم تخصيص الفصل الأول والثاني من الكتاب المعالجة مسألة السيرورة التاريخية لمفهوم المجتمع المدني باعتماد تحقيب زمني حضاري ثنائي السياقات، يتضمن السياق الحضاري الشرقي، ثم السياق الحضاري الغربي، رغم أن هذا التحقيب” لا يخلو من التعسف في العديد من الجوانب، لكنه قد يكون مقبولا من جانب معين هو جانب النظم السياسية،  في علاقتها بالطابع الحضاري لكل سياق على حدة. وتعقب في هذه السيرورة، متى كان ذلك ممكنا ومتاحا للرصد، كلاً من مفهوم «المواطنة” وطبيعة “نظام الحكم»، باعتبارهما مبحثين سياسيين متعالقين (الكتاب ص 27). وخلص إلى أن البحث يرمي إلى دراسة نشأة وتطور مفهوم المجتمع المدني كظاهرة سياسية، وفهم أوليات تبلورها عبر سياقات حضارية مختلفة، وكيف تشكلت أسسها المعيارية والوظيفية كجوهر مرتبط بالسياسة والسلطة، وبإدارة المجتمعات البشرية والتدافع حول أنظمة صناعة القرار، بغض النظر عن طبيعة الحكم ومرجعيته الفكرية أو الدينية أو الفلسفية (الكتاب ص 27).

واعتبر الكاتب صناعة القرار العمومي، بما هو قرار سياسي وعنصر أساسي في إنفاذ السياسات العمومية، بأنه عملية ديناميكية تتألف من مجموعة من العناصر والأبعاد والمراحل، وتتم ضمن مؤثرات وقيود ومحددات متعددة، وتتضمن كافة السلوكيات والتفاعلات المؤسسية والسلوكية التي تفضي إلى اتخاذ القرار، الذي يقوم على المفاضلة والموازنة بين عدد من البدائل المتاحة، وفق نموذج محدد.

هذا التعريف التقريبي أسعف الكاتب في الاقتراب من الظاهرة القرارية بشكل قاصد كما يتطلع إلى ذلك موضوع الكتاب، سواء على المستوى المركزي، أو الترابي، مع استحضار إشكاليته المركزية التي تجعل المجتمع المدني نسقا فرعيا ضمن انساق فرعية متعددة للوعاء الاجتماعي الأشمل، ويدفعه للترافع عن المطالب المجتمعية، وبها يؤثر في منظومة صناعة القرار العمومي.

تناول الفصل الثاني بالتحليل والدراسة سياقات التمكين التاريخي  للمجتمع المدني في المنظومة الحضارية الغربية، التي استفادت مرتين من حضارة الشرق في تجديد توهجها. ويتجذر مفهوم المجتمع المدني في حضارة الغرب في تربة صراع تاريخي بين الفاعل السياسي والفاعل الديني. فظهور المجتمع المدني، كمفهوم، في حلقته الأولى عند المفكر الإنجليزي توماس هوبز لم يكن منفصلاً عن الدولة، بل كان مجرد تعبير عن انتقال مبدأ السيادة (بمعنى القدرة أو الهيمنة أو السيطرة أو النفوذ) من السماء (أي الحكم بالحق الإلهي) إلى الأرض (أي الحكم على أساس العقد الاجتماعي)، رغم أن تصور الحكم الذي رافق هوبز كان ديكتاتورياً مطلقاً، وان لم ينفصل المجتمع المدني في هذه الحلقة الأولى عن المجتمع السياسي.

بعد هوبز فان افتراض طبيعة المجتمع أو تخيل وجوده دون دولة عند المفكر الانجليزي جون لوك بشكل خاص، هو افتراض وجود أفراد اجتماعيين في حالتهم الطبيعية، أي دون دولة، وهو الافتراض الذي يبنى عليه المجتمع المدني في حلقته الثانية كمجتمع مدني قائم بذاته، أي بانفصال عن الدولة.

وقد أضاف المفكر الفرنسي مونتسكيو وفيما بعد الأمريكي الكسي دي توكفيل برؤيتهما ليجعلا من المجتمع المدني وسيط يوازن الدولة ويحد من تأثيرها المباشر في الفرد. أو أن هذا المجتمع على حد تعبير الألماني هيجل يمثل “الحيز الاجتماعي والأخلاقي الواقع بين العائلة والدولة”.

وقد تحول افتراض جون لوك لمجتمع خارج الدولة في النظرية الليبرالية إلى السوق. وبعد أن كان المجتمع المستند إلى العلاقات المتبادلة بين الأفراد في السوق هو ما ينتج مجتمعاً مدنياً خارج الدولة أصبح السوق هو نموذج المجتمع، ولم تعد هنالك حاجة لمصطلح المجتمع المدني.

إن مما يلفت النظر أن الماركسية التقليدية التي سادت لاحقاً (في نموذجها السوفيتي خصوصاً) تعاملت مع مفهوم المجتمع المدني بأسلوب التجاهل والإقصاء والتهميش. فكثيراً ما أهملت المجتمع المدني وعابت عليه بوصفه مفهوماً برجوازيا، لأن الحديث عنه يعني الغطاء والتبرير لعدم الحديث بصراحة، وبكل وضوح، عن صراع الطبقات والمآسي المترتبة عليه.

الحقيقة أن كارل ماركس في رده على هجيل والهيجلية، نظر إلى المجتمع المدني بوصفه الأساس الواقعي للدولة وفضاءاً للتنافس والصراع، ليس الاقتصادي فقط، كما يرى (هيجل) بل السياسي والطبقي أيضا. وهذا الفضاء سوف يخصه ماركس بفرع معرفي مستقل هو الاقتصاد السياسي.

إن ما يفسر عدول ماركس اللاحق عن استخدام مفهوم المجتمع المدني واستبداله بمفهوم (المجتمع البرجوازي) في دراسته للاقتصاد الرأسمالي يمكن تلمسه وملاحظته في تأكيد ماركس على أن المجتمع المدني لا يمكن أن يبحث إلا في الاقتصاد السياسي. وهذا التأكيد تكرر لأكثر من مرة في كتابه “مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي” وفي أجزاء مختلفة من كتابه “رأس المال”.

بيد أن التطورات اللاحقة على ما كتبه كارل ماركس قد بينت أن المجتمع المدني يمثل فضاءً للتنافس والصراع بمختلف أشكاله (الاقتصادية، السياسية، الأيديولوجية، الثقافية) بين الطبقات والفئات الاجتماعية كافة. وهذه التطورات التي شهدها مفهوم المجتمع المدني ستكون موضع اهتمام المفكر الايطالي الماركسي أنطونيو غرامشي.

مر التمكين للمجتمع المدني في الفكر الغربي الحديث عبر مرحلتين مفصليتين: تميزت الأولى باستمرار الفكر المسيحي في الثقافة العامة للمجتمع الأوربي، ” آدم فيرغسون”، “هيوم”، “آدم سميت”، “مونتيسكيو”. وتميزت الثانية بالقطيعة مع جدوى النقاش حول المسألة الأخلاقية، والتوجه نحو الثورة على البنيات السياسية والثقافية الموروثة من مخلفات منظومة القرون الوسطى مع جون جاك رسو،  كانط، هيجل، ماركس، كرامشي، دو توكفيل، هابرماس، حنة أرندت، ميشيل فوكو، كارل سميت…

لقد ساهم مفكرون غربيون كثر في نقد ما عليه واقعهم مجتمعاتهم المدنية الليبرالية التي حصل فيها أكبر تمكين للمجتمع المدني، بالرغم من إقرارهم بأن المجتمع المدني أصبح موضوع اهتمام تحليلي وسياسي متزايد في جميع أنحاء العالم، وأن الحكومات الوطنية والمنظمات الدولية والمؤسسات الخاصة ومنظمات القطاع الثالث تسعى إلى تعزيز أدواره، على أمل أن يساهم في التحول الديموقراطي.

خاتمة

خلاصة القول، يمكن التأكيد على أن الدولة الرشيدة لا تسعى لإلغاء التمايز بين سلطاتها وأدوار المجتمع المدني، بل تعتبره “التمايز” حاجة ملحة لقوة الدولة التي لا تكتمل إلا بمجتمع مدني فعال وعصري بقوته الإقتراحية، وبعمله كسلطة مجتمعية اعتراضية ومضادة، وبأدواره التشاركية في بناء دولة القانون وصناعة القرار العمومي ومراقبة تنفيذه وتقييمه بما في ذلك ممارسة الفعل الاحتجاجي القانوني لبلوغ هذه الغايات، كما أن المجتمع المدني المتحضر لا يناضل لأجل إضعاف الدولة وطمس التمايز بين سلطاتها السيادية وسلطات المجتمع المدني الاقتراحية أو الاعتراضية أو التدبيرية المؤسساتية، لأنه يعتبر الدولة القوية بوظائفها السيادية الحامية للحريات والحقوق والضامنة لسيادة القانون وللتواصل الحر في مجال عام غير إقصائي، ضرورة وجودية تمليهما المصلحة المشتركة للمجتمع والدولة على السواء؛ ولأنه يدرك أن ما لا يمكن تحقيقه مع الدولة القوية، يستحيل أن يتحقق مع دولة ضعيفة أو في وضع اللادولة.