مقدمة

تعتبر العديد من الأطباق علامة مميزة للكثير من الشعوب، فإذا ذكرت على سبيل المثال أكلة  “السباكَيتي”، فإن أول ما يتبادر إلى  ذهن المستمع وتفكيره هو دولة إيطاليا والشعب الإيطالي، في حين أن جذور العميقة للأكلة تعود الصين. وهكذا فإن أيضا عددا من الأطباق لا تعرف جذورها ومنشأها الأصلي إلا القلة القليلة من المهتمين بتاريخ الطبخ أو الطبيخ.

وقد  أصبح أصل أطباق الطعام اليوم، ليس مادة للبحث التاريخي فحسب، بل تحول إلى مادة للتجاذب بين العديد من الدول والشعوب، وصل إلى حد التنازع أمام المنظمات الدولية المختصة، حيث يسعى كل بلد من أجل تسجيلها موروثا ثقافيا خالصا؛  ولعل الأمثلة في هذا الباب كثيرة  والمجال هنا لا يسع  للتفصيل فيها.

وإذا كان طبق “البْسْطيلة” يعد اليوم طبقا مغربيا خالصا؟ فإن السؤال المطروح هو: هل هذا يعني أن جذوره البعيدة تعود إلى المشرق العربي أو الحضارة الفارسية؟ أم أن جذوره القريبة تعود إلى الأندلس؟ أم أن الأمر ليس لا هذا ولا ذاك؟.

البسيطلة بين المشرق والمغرب؟ 

يقتضي البحث عن أصل أي طبق في أي حضارة من الحضارات أو الدول التي ورثت تلك الحضارة (كحضارة فارس التي ورثتها إيران والحضارة الفرعونية التي ورثتها مصر) –يقتضي- النظر بداية  إلى مطبخ تلك الدول اليوم من أجل الوقوف واستكشاف ما يتناوله بناة ومؤسسو تلك الحضارة بهدف معرفة إن كان الطبق الطبق المشمول بالبحث لازال حاضرا على موائدهم؟. وذلك قبل البحث  في المصادر التي اهتمت بتاريخ الطبخ عند تلك الشعوب والحضارات للبحث فيما إذا كانت تلك المراجع تسعف في الوقوف على ذلك الطبق بين دفتيها، وذلك في حالة ما إذا كان الطبق قد اختفى من موائد هذه الشعوب اليوم.

وإذا سلمنا، أن طبق البسطيلة بشكلها الحالي أو بشكل يقترب منه أو يشبه حتى، لا وجود له على موائد الطعام المشرقية بجميع دولها -وهو الأمر الذي لا اختلاف عليه-، فإن الأمر يقتضي منا البحث في كتب الطبخ أو الطبيخ.

بالرجوع إلى أولى كتب الطبيخ المشرقية التي وصلتنا، وهو كتاب “الطبيخ، وإصلاح الأغذية المأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات مما استخرج من كتب الطب وألفاظ الطهاة وأهل اللب” لإبن سيار الوراق (القرن 4ه/  10م)، وهو الكتاب الذي يحتوي أكثر من 600 وصفة، فلم يرد ضمنه من الأطباق ما يشبه طبق البسطيلة، أو يشير إليها ضمن ما ذكر من الوصفات الستمائة[1]. وينطبق  الأمر نفسه على مؤَلف: “كتاب الطبيخ ” لمحمد بن الحسن بن محمد الكاتب البغدادي (القرن 7ه/13م)، والذي ألفه صاحبه سنة 1226 م[2].

أما كتاب “كنز الفوائد في تنويع الموائد” عن الطبيخ المصري في القرن 14 الميلادي، وهو لكاتب مجهول، فقد احتوى على 22 بابا اشتملت 820 وصفة[3]. وهذا الكتاب هو كذلك كسابقَيه  لم يرد ضمن وصفاته الثمانمائة ما يشبه طبق البسطيلة أو يقترب من مكوناتها  حتى، وذلك راجع إلى أن  الطبخ المشرقي لم يعرف وقتها المحشُوات، وهذا ما أكده الأستاذ عبد الهادي التازي، الذي اعتبر أن المحشوات طبخ مغربي أصيل[4].

الجذور المغربية لطبق البسطيلة 

إذا كان التدليل على أن طبق البسطيلة ليس طبقا مشرقيا، قد استدعى الرجوع إلى كتب الطبخ المشرقي، فإن البحث عن الجذور المغربية لطبق البسطيلة تقتضي منا أيضا اعتماد نفس المنهج، وهو النظر في واقع حال طبق البسطيلة في الحياة اليومية للمغاربة اليوم، وكذا البحث عن جذور الطبق في المصادر التي أرخت للطبخ في المغرب والأندلس.

إن طبق البسطيلة وما يرمز إليه في المغرب باعتباره اليوم علامة مميزة لتنوع وتفرد وغنى المطبخ المغربي. كما أن وصفه بكونه طبقا لكل منطقة الغرب الإسلامي، لا ينسجم مع منطق البحث العلمي ومناهجه، خصوصا وأن اغلب الذين كتبوا عن هذا الطبق؛ إن لم نقل كلهم يتحدثون عن كونه طبق أندلسي بلغة إطلاقية وجازمة دون التدليل على ذلك ولو بإشارة عابرة أو مقتضبة.

إن أولى الإشارات التي وردت حول المحشوات، والتي أشرنا سابقا إلى أن المشرق لم يعرفها، -وهي طريقة حشو العجين باللحم ثم طهيه بعد ذلك  في الفرن- فقد وردت تحت مسمى؛ البرمكية في كتاب “أنواع الصيدلة في أنواع ألوان الأطعمة؛ الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين” (لكاتب مجهول من العصر الموحدي)، حيث قدم كيفية صنع الدجاج أو اللحم أو اليمام بعد تقطيعه وطهيه بعد إضافة البصل والتوابل والزيت وغيره،  فإذا جف مرقه يؤخذ ليتم قليه في الزيت مجددا ثم يتم حشوه في عجين الخبز المعد بالخمير وبالزيت وإدخاله للفرن وطهيه. ويصنع هذا الطبق كذلك بسمك مقلي -كما يشير صاحب الكتاب- وهذا الطبق هو نفسه ما يسمى ب”المدفونة” عن أهل تافيلالت في الجنوب الشرقي للمغرب، غير أن المدفونة تصنع باللحم فقط، دون السمك كما ورد عند صاحب الكتاب[5] .

أما أولى الإشارات إلى طبق البسطيلة؛ فوردت واصفة إياه ب “المحشو”، فقد وردت عند ابن رزين التجيبي  صاحب كتاب: “فضالة الخوان في طيبات الطعام والأوان” (وهو كتاب حول الطبخ في الأندلس والمغرب خلال القرن 13م)، حيث أورد صاحب الكتاب طريقة إعداد حشوة البسطيلة وطريقة الإعداد كذلك بشكل لا يختلف عن اليوم إلا في جزئية بسيطة جدا عن كيفية تحضير الطبق في سياقنا المعاصر .

يقول ابن رزين التجيبي: “يقطّع الفرخ قطعا صغيرة ويوضع على النار ويضاف إليه البصل والتوابل (سبعة أنواع من التوابل) والبيض وماء كزبرة وماء نعناع، ثم يتم وضع الجميع في مقلاة مع الزيت وتركه ينضج حتى يحمر ويتجعد…ثم يتم بعد ذلك تهييء معجون مكون من اللوز المدقوق والفستق والسكر الذين يتم خلطهم بماء الورد. ليتم بعد ذلك المرور إلى التحضير؛ حيث يتم وضع هذا المعجون بقاع القدر ويضاف إليه اللحم المخلوط مع البيض، ثم يوضع العجين على ذلك، ثم توضع ثانية بقية اللحم المدروس واللوز عليه ويوضع العجين على ذلك، ثم يوضع بقية اللحم والبيض وتختم القدر ببقية العجين. ولا يغفل في سقي القدر بالسمن أو الزيت حتى لا يلتصق العجين في جوانبها، وتحمل إلى الفرن وتبعد عن النار. فإذا استوفت حقها كسرت برفق ثم يسقى ذلك بالسمن والعسل[6] .

وإذا كانت البسطيلة اليوم تصنع بما يسميه المغاربة ب”الوْرْقة”، فإنها في وصف ابن رزين تصنع بالعجين بدلا من “الورقة” أو الرقاق كما تسمى في كتب الطبيخ التي ألفها المغاربة قبل قرون، فانه سيتم الاستعاضة عن العجين نظرا لسماكة حجمه، بالورقة أو الرقاق، ذات السُّمك الرقيق، وذلك في وقت لاحق من التاريخ، لا نستطيع الجزم بتحديد زمانه، خصوصا أن الورقة أو الرقاق قد عرفت في المغرب والأندلس قرونا قبل ذلك. وللوقوف على الطريقة التي تصنع بها حاليا البسطيلة المغربية يمكن الرجوع إلى كتاب أنواع الصيدلة في أنواع ألوان الأطعمة؛ الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين[7].

وخلاصة القول، فقد وضعنا القارئ أمام صورة تاريخ هذا الطبق المغربي الخالص، و الذي  يرجع، في اعتقادنا، إلى الفترة الموحدية على أقل تقدير، وذلك بعيدا عن منطق إطلاق الأحكام دونما تمحيص واستنادا إلى المصادر، بالقول أن الطبق حمله معهم المطرودون من الأندلس بعد سقوط آخر قلاعها أواخر عام 1492م، وهو الحدث الذي يرجع إلى أواخر القرن 15 الميلادي.

أما فيما يتعلق بمسألة الاسم فالأمر لا يثير إشكالا كبيرا، خصوصا و أن الكثير من الأطباق الضاربة في القدم تغيرت مسمياتها من مرحلة تاريخية إلى أخرى، كما تتغير مسمياتها من شعب إلى آخر.

المراجع
[1] ابن سيار الوراق، الطبيخ وإصلاح الأغذية المأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات مما استخرج من كتب الطب وألفاظ الطهاة وأهل اللب، تحقيق إحسان ذنون الثامري، منشورات دار صادر، ط1، 2012، بيروت.
[2] محمد بن الحسن بن محمد الكاتب البغدادي، كتاب الطبيخ، تحقيق وتقديم قاسم السامرائي، دار الوراق، ط1، بغداد، 2014.
[3] مؤلف مجهول، كنز الفوائد في تنويع الموائد، تحقيق مانويلا مارين وديفيد واينز، منشورات فرانتس شتاينر شتوتكازت، ط1، بيروت، 1993.
[4]  التازي عبد الهادي، التاريخ الدبلوماسي للمغرب من أقدم العصور إلى اليوم، ج 2، منشورات مطابع فضالة، المحمدية، ط1، 1988، ص 311.
[5] مؤلف مجهول، أنواع الصيدلة في أنواع ألوان الأطعمة: الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين، تحقيق عبد الغني أبو العزم، مؤسسة الغني للنشر، 2010، ص 26.
[6] التجيبي إبن رزين، فضالة الخوان في طيبات الطعام والأوان، تحقيق محمد بن شقرون، دار الغرب الإسلامي،بيروت، ص 78.
[7] مؤلف مجهول، أنواع الصيدلة في أنواع ألوان الأطعمة: الطبيخ في المغرب والأندلس في عصر الموحدين، تحقيق عبد الغني أبو العزم، مؤسسة الغني للنشر، 2010، ص 176.