صدر عن المركز الثقافي للكتاب، كتاب:”وتحملتي حيرتي وظنوني، سيرة التكوين”، الذي يقع 342 صفحة من القطع المتوسط، للدكتور سعيد بنكراد المترجم والناقد والباحث في النقد الأدبي والسميائيات، الطبعة الأولى 1442هـ/2021م/الدارالبيضاء – المغرب.

سياق هذه الحيرة وهذه الرحلة الفكرية يقول المترجم بنكراد، أن المصادفة وحدها هي ما جعل هذا النص يخرج إلى الوجود. لقد بدأت كتابته في منتصف آذار/مارس 2020. عندما قررت السلطات تطبيق حجر صخي وفرض علينا البقاء في منازلنا. في تلك الفترة بالذات اتصل بي طالب سعودي وطلب مني سيرة مختصرة عن مساري العلمي كان جزءا من عمل سيقدمه إلى أستاذه المشرف في الدكتوراه. وكتبت بعض الصفحات حول هذا المسار، خاصة في الفترة التي كنت فيها في باريس. ولكنني لم أتوقف. لقد وجدت نفسي منساقا مع حبل الذكريات، وبدأت معالم سيرة فكرية ترتسم أمامي وتتخذ الشكل الذي أقدمها من خلاله اليوم إلى القراء.

الهوية السردية… الذاكرة… والزمن  

يشير الدكتور سعيد بنكراد في بداية هذه الرحلة الفكرية، إلى كون هذا النص حالة من حالات بوح فكري لم يكن من الممكن أن يستقيم إلا من خلال ما يبيحه السرد ويكشف عنه. وهذه طريقة أخرى لتشخيص المعرفة وتحويلها إلى فرجة، وتلك أيضا وظيفة التوسط التي يقوم بها السرد. فهو لا يكتفي، على خلاف ظاهره، برواية وقائع وأحداث تنتمي إلى ماض لن يعود أبدا، إنه يقوم في المقام الأول بتشخيص الخبرة الإنسانية وإدراجها ضمن تفاصيل (فرجة حياتية) هي السبيل الأمثل إلى تعميمها.

لذلك يؤكد سعيد بنكراد أنه لا يمكن للحياة أن تتسلل إلى الذاكرة إلا من خلال قدرة الإنسان على التقاط صورها كما تتحقق ضمن (إيقاعات) زمنية ترى في أمداء خاصة هي محكيات السرد وأساطيره، أي ما يشكل سيرة الأفراد والجماعات، وما يشكل (هويتهم السردية) بكل أبعادها أيضا. فنحن لا نستوطن الزمن ونحياه من خلال ما فعلناه فحسب، بل نلجه أيضا وفق ما حلمنا به أو تمنيناه أو ظل كامنا في وجداننا أو طوحت به الإحباطات. وذاك شرط اشتغال الذاكرة، إنها تستعيد ما خزنته حقا وما علق بها عرضا، أو ما حاولت إعادة تركيبه استنادا إلى حيوات أخرى هي ما يصدق على ما يرويه الناس عن أنفسهم. فنحن في السيرة وفي الحياة أيضا نستمد جزءا من هويتنا من انتماءات قبلية.

ويكمل الباحث سعيد، إن الذي يكتب (لا يستعيد) زمنية ولت، كما يبدو عليه الأمر في الظاهر، وإنما يبحث عن الانسجام في ما يبدو متنافرا، أي من خلال ما تعرضه زمنية لا حد لها في البداية والنهاية. إن تفادي ضياع الهوية، لا يمكن أن يتم إلا من خلال ما يمكن أن يضمنه (الدوام في الزمن)، كما يقول ريكور دائما، وهذا الدوام هو ما يصنعه الوجود في السرد، أي هوية الفرد في الزمن المحكي.

الطفولة… العائلة… التعلم

كانت البدايات الأولى للدكتور سعيد في الكتاب وفي المدرسة بعد ذلك. يقول: كنا نقطن بمنطقة فلاحية تسمى لعثامنة، وقد أنشأ فيها الفرنسيون في بداية القرن الماضي مركزا صغيرا أطلقوا عليه (كافي مور)، ولا أعرف سر هذه التسمية لحد الآن، أما اليوم فيسمى (مركز العثامنة).

ويقال إن العثامنة هم سكان عرب ينحدرون من عثمان بن خراج من قبيلة بني معقل، كانوا يقطنون سهول انكاد المتاخمة لمدينة وجدة. فنزحوا عنها واستقروا في سهول تريفة الممتدة بين بركان والسعيدية. وربما تعود التسمية أيضا إلى نزوح محتمل لبعض القبائل، فالمنطقة محاذية للجزائر، ولا يستبعد أن تكون مجموعات سكانية قد تسللت أيام العثمانيين إلى المغرب واستقرت به، وظلوا يحملون اسم (العثامنة) إلى يومنا هذا.

وعن والده يشير بنكراد، كان والدي فلاحا بسيطا يعمل في أرض كان يزرعها خضرا وفواكه وبرتقالا، وفيها رأينا النور جميعا أنا وإخوتي الخمسة، وتوجد على مسافة ثلاثة كيلوميترات من الدوار الرئيس لعائلتنا الكبيرة، جدي أعمامي. كان كل شيء جميلا حولنا، البرتقال والماء الرقراق وزرقة السماء والبحر الذي لا تحد العين. كان يومنا نهارا دائما كأن الشمس لا تغرب عن قريتنا أبدا. كنا نقضي أيامنا في اللعب، وكانت فرحة الطفولة لا تفارق أعيننا رغم الفقر والخصاص والحاجة. كانت مياه نهر ملوية تسقي المساحات الشاسعة المزروعة في أغلبها حمضيات وقطاني. وظلت كذلك إلى يوم الناس هذا.

توفي والدي في سنوات عمري الأولى، وتغير كل شيء في حياتنا، كان هو المعيل الوحيد لعائلة من ستة أفراد، وعندما مات، وكان في الخامسة والأربعين من عمره، ترك فراغا كبيرا وشعر الجميع أن العائلة فقدت رأسها قبل الأوان. وتكلفت والدتي بتربيتي. كان أخي الأوسط، التهامي، مايزال صغيرا حينها، ومع ذلك سيتحمل عبئ إعالة عائلة بأكملها. وسيلتحق بالعمل في ضيعات المعمرين. وهو من سيتكلف بعد ذلك بمصاريف دراستي.

حصلت على الشهادة الابتدائية في مدرسة يوسف بن تاشفين في مركز العثامنة، كانت حينها ما تزال تسمى (مدرسة كافي مور)، ويبدو أنني كنت من المتفوقين، والدليل على ذلك أنني كنت من بين أقلية منحت لها فرصة الانتقال إلى النظام الداخلي في ثانوية أبي الخير في بركان. وهو ما رفع حملا ثقيلا عن والدتي.

انتقلت إلى مدينة بركان تلميذا في الداخلية (ثانوية أبي الخير)، لأحصل على شهادة البكالوريا في الآداب العصرية. كانت هذه المدينة الصغيرة تتوفر حينها على إعدادية واحدة بنيت هي الأخرى أيام الاستعمار، ربما سنة 1927ـ وكانت مخصصة للتعليم الابتدائي، وستتحول بعد الاستقلال، بفترة قصيرة، إلى إعدادية ستحمل اسم (إعدادية ابن رشد)، وكانت تستقبل كل تلاميذ المراكز المحيطة بالمدينة، السعيدية والعثامنة ومداغ وأكليم والكثير من القرى المجاورة. ودرست في هذه الإعدادية لمدة أربع سنوات حصلت فيها على شهادة التعليم الإعدادي (ما يطلق عليه البروفي).

… وهذا هو الدور الذي تقوم به القراءة. وقد يكون هذا هو الذي دفع أومبيرتو إيكو إلى القول:(من لا يقرأ سيعيش حياة واحدة، هي حياته، ومن يقرأ سيعيش خمسة آلاف سنة)، وكان يشير بهذا الرقم إلى التاريخ المفترض للكتابة (بين خمسة آلاف وستة آلاف سنة). إن حياة الإنسان في الأرض قصيرة جدا. لذلك لا يستطيع أن يقوم بكل ما يرغب فيه، ولا أن يجرب كل شيء في هذا العمر القصير، وليس من الضروري أن يجرب كل شيء.

حللت بمدينة فاس طالبا، وكان ذلك سنة 1974، وانتسبت إلى شعبة الأدب العربي في كلية الآداب التابعة لجامعة سيدي محمد بن عبد الله. كانت هذه المدينة تأوي الجامعة الحديثة الثانية في المغرب المعاصر، بعد جامعة محمد الخامس بالرباط التي تأسست مباشرة بعد الاستقلال. لقد حولت السلطات المغربية قاعدة عسكرية فرنسية قديمة، وكانت قاعدة لسلاح الجو الفرنسي، إلى حي جامعي وإلى قاعات ومدرجات يلتقى فيها الطلاب دروسهم. وظل الطريق الذي يؤدي إليها يحمل لسنوات طويلة اسم: شارع الطيران الفرنسي. كانت هذه القاعدة تقع على أطراف المدينة، وقد بنيت فوق هضبة تطل على السهول الشرقية المحيطة بمدينة فاس.

وفي هذه المدينة ستبدأ حياتي الجديدة، في المعرفة والسياسة وروح المغامرة والسفر والمنفى بعد ذلك. لقد كانت مرحلة مفصلية في كل اختياراتي اللاحقة. كانت تلك هي المرة الأولى التي أغادر فيها مدينة بركان لكي أكتشف المغرب العميق. كان أقصى ما يمكن أن نصل إليه في قرانا هو مدينة وجدة شرقا، ومدينة الناظور غربا، وكانت فاس في الوقت ذاته هي المدينة الرمز التي كان الناس يتحدثون عنها بإجلال، كان يقال مثلا: (لن يحل هذه القضية سوى قاضي فاس). كانت المنطقة الشرقية كلها تابعة قضائيا لمحكمة الاستئناف فاس. وسأختار الأدب العربي بتأثير من أساتذتي في الثانوي. وكان الاختيار في نهاية الأمر منحصرا عندي بين الأدب والفلسفة.

الانتماء السياسي… وفترة الاعتقال  

يقر الدكتور بنكراد أن الحدث الكبير في حياتي في هذه المدينة (فاس) سيكون هو الالتزام السياسي. فقد انتميت، نتيجة إحساسي قوي بالظلم والتهميش، إلى تيار يساري كان يناضل من أجل الإطاحة بنظام الحكم القائم، وإقامة (دولة الفقراء)، وهو التيار ذاته الذي كان يؤطر نضالاتنا في الثانوي. وذاك ما أثر في كل توجهاتي الأدبية والفكرية اللاحقة. كانت الماركسية اللينينية هي الفكر السائد في أوساط الطلبة، وكان على المناضلين منهم اعتناق، بالمفهوم العقدي للكلمة، (الجماليات) التي كان يدعو إليها هذا التيار الفلسفي/الإيديولوجي/ السياسي/الأدبي (أقنعونا أن لينين كان ناقدا، وكذلك ماو تسي تونغ ناقدا أيضا، بل إن هو شي منه كان ناقدا وشاعرا في الوقت ذاته).

كان الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وكان محظورا في تلك الفترة، هو الإطار الذي نمارس من خلاله قناعاتنا في الأدب والسياسة والايديولوجيا والعلاقات الإنسانية. لم نكن مجرد تيار طلابي عابر يناضل من أجل تحسين شروط العيش والدراسة في الجامعة، كنا أيضا الواجهة العلنية التي من خلالها يريد هذا التيار الانتشار في أوساط (الجماهير العريضة) من عمال وفلاحين ومهمشين وفئات أخرى من الشعب لا موقع لها في الخريطة الإنسانية.

وستنهي رحلتي في هذه الكلية بالاعتقال والسجن. أتذكر الكثير من تفاصيل ليلة الاعتقال هاته. كنا في رحلة إلى الرباط من أجل (المشاركة) في (معركة نضالية) كان يخوضها رفاقنا هناك (لا أتذكر بالضبط ما هي هذه المعركة وأين كانت ستجري أطوارها)، كنا نريد مد يد العون لهم، فنحن كنا في ظهر المهراز نعتبر أنفسنا القوى الرئيسية لليسار في الجامعة المغربية، فنحن أصل الحركة ومهدها، أو هكذا خيل لنا. ولكننا كنا نعرف أيضا أن السلطة لن تفوت هذه الفرصة، وستعتقلنا لا محالة. وأذكر أيضا أن مدير الحي الجامعي، وكان رجلا يتميز بحس إنساني غريب، حذرنا من السفر، وحذرني شخصيا من هذه المخاطرة بما يوحي أن رجال السشرطة وضعوا فعلا كمينا لاعتقالنا. ومع ذلك أصررت على الذهاب وكان معي محمد مسكين رحمه الله والكثير من الرفاق الآخرينـ فنحن لن (نتخلى) عن رفاقنا في الرباط.

سيطلق سراح البعض منهم بعد أيام، أما نحن، رؤوس الفتنة، فقد رحلونا إلى القسم المخصص للشرطة القضائية والسياسية في مقر للشرطة كان يطلق عليها Ravin (الوادي) في حي الليدو، وكان قريبا من الجامعة، وكان مشهورا بأنه مخفر للتعذيب (مقر الشرطة القضائية). وضعوا مجموعة منا في زنزانة واحدة، وفصلوني عنهم ووضعوني في زنزانة انفرادية، وكانت صغيرة جدا ووسخة فيها مرحاض تفوح منه رائحة كريهة. وكان صنبور المياه يفتح بالتقسيط. حينها ستبدأ رحلة تعذيب استمرت لأكثر من شهر.

وبعد أن قضينا ما يقارب الأربعين يوما في مخفر الشرطة، رحلونا إلى سجن عين قادوس. ولأول مرة سألتقي محمد مسكين الذي كان معتقلا معي في المخفر نفسه، ولكنني لم أره أبدا طوال مدة الاعتقال. كانت فرحة كبرى ونحن نغادر المخفر إلى السجن. كانت زنزانات السجن تبدو لنا غرفا في فندق خمسة نجوم قياسا بما عشناه في المخفر. سنستعيد جزءا من حريتنا، وسيستقبلنا مدير السجن، وكان رجلا دمثا ومحترما، وسيخصص لنا وحدنا نحن المعتقلين السياسيين زنزانة كبيرة. كانوا أحيانا يأتون ببعض السجناء (المحترمين) أي الموظفين، أو العاملين في قطاعات اقتصادية محترمة ليقتسموا معنا الزنزانة لفترة طويلة…. وعرضونا على قاضي التحقيق، واستمرت الجلسات معه لفترة طويلة، وسنقضي في هذا السجن أكثر من سنة. وسنتنتع في النهاية بالسراح المؤقت.

من المغرب الى باريس… بداية الرحلة الفكرية

حصل سعيد على شهادة الإجازة في الأدب العربي، وغادر المغرب بعدها سرا متوجها إلى فرنسا، عبر الجزائر رفقة صديقيه.

دخل فرنسا هاربا من السلطة بجواز سفر مزور، كان ذلك سنة 1981، ويقول بنكراد انتسبت إلى جامعة السوربون في باريس. وتلك كانت البداية الحقيقية في رحلة فكرية لم تنته لحد الآن. أشياء كثيرة ستتغير في حياتي. كان اللقاء مع الوسط الجامعي الجديد قويا وعنيفا ومستفزا ومثيرا. أحسست، بما يشبه الحرقة، ألا قيمة لكل ما تعلمته في ميدان الأدب والنقد. كنا لسنوات طويلة نتحدث في السياسة والإيديولوجيا، ولا نقول أي شيء عن طبيعة النصوص التي ندرسها، كنا نلهث وراء المضامين السياسية، تاركين الجمال والمتعة الفنية وراءنا، كنا نتعلم كيف نحكم على الواقع ولم نتعلم أبدا كيف نحللها.

أدركت حينها أن في النصوص محتوى آخر غير ما يشير إلى الإيديولوجيا، وأن هذه النصوص يمكن أن تقول شيئا ما في السياسة، ولكن عليها أن تقوله بطريقتها الخاصة. وسأدرك أن عوالم النص ليست هي عوالم الواقع، وأن مرجعيته تبنى في التخييل ذاته، واستنادا إليها يجب الحكم على حقائقه. يضاف إلى هذا أن الكلية التي انتسبت إليها في جامعة السربون، تسمى باريس 3، كانت معروفة بتوجهها البنيوي الخالص، بل كانت من أكثر الجامعات شكلانية (كان من أبرز أساتذتها آنذاك فيليب هامون وجان كوهين ومحمد آركون وآخرون).

… في هذه الجامعة كان علي أن أبدأ من جديد، كان علي أن أنسى قبل أن أبدأ التعلم. كان علي أن أنسى كل ما تعلمته عن الواقعية، والواقعية الاشتراكية، والنقد الإيديولوجي، وما تعلمته عن (البنيات التحتية والفوقية) لكي أعود من جديد إلى النص، فلا (خلاص للناقد خارجه)، وهي عبارة مشهورة لألجيرداس جوليان كريماص، أحد أقطاب السميائيات السردية، ومؤسس (مدرسة باريس). إنها مستوحاة من الإنجيل، فالتقليد المسيحي يقتضي أن تكون الكنيسة أمه. وهي الصيغة التي ستستعيدها البنيوية بطريقتها الخاصة حين تحدثت عن مبدأ (المحايثة)، فالنص عندها كلية مستقلة عن محيطها، إن المعنى داخله هو حاصل بنيات قائمة بذاتها ويمتلك دلالاته في انفصال عن كل ما يوجد خارجه.

ويختم سعيد كانت حياتنا الجامعية في باريس مليئة بالمفاجآت في المعرفة والعلم وفي الحياة أيضا. لقد كانت السنوات التي قضيتها في هذه المدينة هي الأساس الذي سأبني عليه كل اختياراتي المعرفية والوجودية اللاحقة. لقد تخلصت من التأويل الإيديولوجي، ومن الرؤية السياسية الأحادية، وتبنيت رؤية حضارية لا تقيس الوجود بالربح والخسارة، بل بالرقي في السلوك والمزيد من الإنسية في حياتنا. لذلك كانت التجربة الإنسانية كما تبنى في كل ما ينتجه الإنسان هو منطلقي الأساس.