تقديم

محكيات من سيرة الروكي بوحمارة لصحفيين وكتاب غربيين معاصرين له، كتاب لسعيد عاهد عن منشورات جريدة الاتحاد الاشتراكي الطبعة ألأولى  2013 م، يعد المؤلف انتقاء وتجميعا وترجمة لمقالات وكتابات أجنبية جمعها الكاتب والصحفي عاهد في طبعة أنيقة من 208 صفحة من الحجم المتوسط، وتضم كذلك ثلاثة ملاحق خاصة بالصور والرسوم التشخيصية للفاعلين وللأحداث.يعتبر “بوحمارة” أحد أكثر الشخصيات التاريخية المغربية إثارة للجدل؛ فهناك من يعتبره ثائراً تحررياً، فيما يعتبره الآخرون ناشراً لفتنة ومتعاوناً مع الاحتلال. وبين القولين يقبع “بوحمارة” كحدث فاصل في فترة من تاريخ البلاد طبعتها الحروب والقلاقل.

وصدرت طبعة ثانية أنيقة منقحة ومزيدة، ضمن منشورات “دار القلم العربي”، سيرة ومسار لرجل ادعى الولاية وأنه ولي صالح بعثه الله مؤيدا بكرامات، وقال إنه أمير قرشي من نسل علوي، ربط أحلاف وثيقة مع الاستعمارين الفرنسي والإسباني، وقدم نفسه على أنه مقاوم من أجل استقلال البلاد. هو الجيلالي بن عبد السلام، المكنى “بوحمارة”، الذي تمرد على السلطة المغربية بفاس أواخر القرن 19م وسعى إلى تأسيس دولة بدلاً من دولتها، فهل نحن أمام شريف علوي أم ثائر ناشر للفتنة؟ من كان وراءه وما السياق الذي  ظهر فيه الروكي؟ وما أثره على تسريع وتيرة الاستعمار بالمغرب؟ ثائر أم ناشر فتنة؟ ما أهمية المؤلف؟ وما الدروس المستخلصة منه؟.

بوحمارة متمرد على المخزن

ظهر بوحمارة في سياق مليء بالاضطرابات، فقد كانت وفاة السلطان مولاي الحسن الأول إيذانا بدخول المغرب في فتنة كبيرة، بعد أن آل الحكم إلى مولاي عبد العزيز تحت تأثير والدته دوناً عن باقي إخوته، ما جعل الصدر الأعظم أحمد بن موسى الشرقي المعروف بـ”با حْماد” ينصب نفسه وصيا على السلطان الصغير في وقت كانت الأطماع الأجنبية تهدد المغرب بقوة، خاصة منذ الهزيمة في معركة إيسلي عام 1844 أمام الفرنسيين وبعدها هزيمة معركة تيطاوين عام 1860، ما جعل المغرب يصبح مطمعا للبعثات الاستعمارية، لكن مع ذلك نجح با حْماد طوال ست سنوات في حماية العرش العلوي، ومن أهم ما فعله أنه نجح في يناير 1899 في إجهاض انتفاضة مولاي رشيد، عم مولاي عبد العزيز وعامل تافيلالت، وذلك عن طريق جعل فرع من قبيلة كلاوة ينفصلون عنه، قبل أن يفارق باحْماد الحياة في العام الموالي، تاركا السلطان ألعوبة في يد الأجانب والوزراء الذين اختارهم لتدبير شؤون الحكم بعده، ومن أبرزهم وزير الحربية المهدي المنبهي ووزير الخارجية فضول غرنيط اللذين ساهمت سياستهما في اندلاع أخطر ثورة هددت وجود العرش العلوي في ظروف استثنائية، والتي عرفت تاريخيا بفتنة بوحمارة، والتي لم يوضع لها حد إلا بعد سبع سنوات كان خلالها هذا الثائر على السلطان يسعى لأن يصل إلى هدفه الذي توقف يوم 9 شتنبر 1909 بساحة المشور في فاس رغم محاولته استغلال ما تعلمه داخل خدمته في القصور أو الاستعانة بالسحر والشعوذة في هذا السبيل.

الجيلالي بن عبد السلام بن إدريس اليوسفي الزرهوني الملقب ب”بوحمارة”، يعود نسبه إلى قبائل زرهون وسط المغرب، ذات النسب العربي القرشي، الذي يمتد إلى المولى إدريس الأول مؤسس الدولة الإدريسية. ولد بقرية زرهون في ستينيات القرن 19م، وفيها تلقى تعليمه الأول، قبل أن ينتقل إلى العاصمة فاس ليكمل طلبه العلم في جامعة القرويين العريقة. وهناك درس العلوم الأصيلة، الفقه واللغة والفَلَك، مما أتاح له الالتحاق بالمدارس العسكرية التي أُنشئت في عهد السلطان الحسن الأول. بعد إتمام تعليمه، تخرج بوحمارة من المدرسة العسكرية ضابطاً مهندساً، وإثرها شغل وظيفة كاتب في ديوان الخليفة السلطاني عمر بن الحسن، الابن الثاني للسلطان الحسن الأول. وكانت للخليفة أيضاً مطامع في الحكم، وبعد وفاة أبيه قاد الخليفة تحركاً لإزاحة أخيه الأصغر عبد العزيز عن العرش، لكنه فشل في آخر الأمر. وجد الجيلالي بوحمارة نفسه وقتها واقعاً وسط هذا التطاحن بين الإخوان الثلاثة على السلطان، ولما كسرت شوكة من كان رب عمله، سجن هو الآخر مع من سجنوا من حاشيته. قضى هناك في سجن السلطان ثلاثة أعوام، وبعد الإفراج عنه رحل شرقاً نحو الجزائر، حاملاً معه درايته بخبايا السلطة الداخلية للبلاد وخاتماً سلطانياً سرقه من سيده السابق. ووضع نصب أعينه حشد الناس حوله، وتعاظم طموحه في تأسيس دولة خاصة به. مع وصوله للجزائر نهاية القرن 19م، أخذ يجول بين زواياها وأضرحتها، يتتلمذ على يد مشايخ الطرق ويتشرب أصول الطريقة الشاذلية. إلى أن اشتق لنفسه منها تصوفه الخاص، الذي أسماه “الطريقة النورانية”. وتقوم هذه الطريقة على ركائز أهمها: طاعة الشيخ لمريده طاعةً تامةً، وأن الولاية للإمام المتحلي بالخوارق والكرامات، كما ضرورة أن يكون الإمام قرشيّاً يقيم الحق بين أهل الإسلام ويُنجدهم من ضياعهم.

لما كسب عطف الناس وأحاط بنفسه هالة وتجمهر عليه حشد كبير، رجع بوحمارة إلى شرق المغرب لينفد خطته في بسط ملكه على البلاد، وتحقيق طموحه. فقام أولاً بجمع قبائل المنطقة عليه، مستعيناً بما تعلمه من شعوذة وخدع ليوهمهم بأنه الولي الصالح المؤيد من الله بالخوارق والمعجزات. لدرجة وصفه العلامة المختار السوسي، في كتاب المعسول، قائلاً: “لِما له (بوحمارة) من سحر وعلم بالأسماء، خرج من الدار بين الناس ولم يظهر للعيون”.

سياسياً أسس بوحمارة دعوته على ركيزتين أساسيتين؛ الأولى، أن يهاجم السلطان الصغير باعتباره غِرّاً ليست له مقدرة على حكم البلاد، وأن حاكمها الفعلي هو صدره الأعظم المتواطئ مع “الاحتلال النصراني”. والثانية، أن يقيِّم موقف العداء للمستعمر العازم على سلب البلاد وإذلال العباد. وفي سنة 1901، قرر بوحمارة انطلاق تحركه العسكري للاستيلاء على عرش المغرب. وتحرك مع جيوشه غرباً نحو مدينة تازة، التي احتلها في السنة نفسها. هناك حول حركته إلى مملكة وسمى المدينة عاصمة لها، وشرع في تنظيم الجيش ومؤسسات الدولة، ومد حدوده من وجدة شرقاً إلى قصبة سلوان شمالاً إلى تخوم فاس في الغرب.

وفي الفترة ما بين 1902 و1907، شهدت هذه المرحلة انتصارات كاسحة لبوحمارة، ضمنها هجمتان قادهما السلطان عبد العزيز لدخول تازة انكسرتا على جدرانها. خلال ذلك قرر الجيلالي توجيه جيوشه نحو الشرق من أجل تأكيد سيطرته على تلك الأراضي، مخلفاً صدامات دموية بينه وبين القبائل الموالية لفاس. وفي سنة 1904، وقع انشقاق في حكومة بوحمارة أحدث شرخاً كبيراً في مسيرته. إذ تخلى عنه وزير حربه ولحق بالسلطان في فاس. ما دفع هذا الأخير إلى تكرار محاولة اجتياح أراضي الجيلالي، وهناك سيرتكب جيشه أفظع الجرائم، من سلب ونهب وهتك للأعراض، ما سيثير امتعاض المغاربة على السلطان، وستتخلى قبائل المنطقة عن مساندته بصفة نهائية. إثر هذا الواقع لم يجد السلطان عبد العزيز بداً من التحالف مع الفرنسيين لدحر بوحمارة. وبالتالي وجد هذا الأخير نفسه واقعاً في كماشة، بين الجيش الفرنسي المتقدم من الشرق، وجيش السلطان الضاغط من الغرب. فخسر وقتها مجموعة مواقع كانت تواليه، مثل الزاوية البودشيشية، التي تخلى عنه شيخها بعد أن وقع تحت تهديد الفرنسيين. وانتهت هذه المرحلة بسقوط وجدة محتلةً في يد الفرنسيين، تمهيداً لاحتلال المغرب كله، في إطار معاهدة الجزيرة الخضراء بوساطة أمريكية. وبحضور 12 دولة أوروبية، قُسِّم المغرب إلى مناطق نفوذ استعماري. وقد أحرج وجود “بوحمارة”، بالقرب من ميناء مليلية المحتلة، كثيراً السلطات الإسبانية وسكان المدينة، حيث اضطر الإسبان من أجل ضمان الحصول على الإمدادات للسكان إلى التفاوض المباشر معه.

النهاية المأساوية لبوحمارة

خرج المغاربة مطالبين بعزل السلطان عبد العزيز لتحالفه مع الفرنسيين، ووقع ذلك سنة 1908بفتوى من فقهاء القرويين. وحل محله السلطان عبد الحفيظ، الذي قاد حملة لاسترجاع الأراضي من قبضة أخيه، وركب على رأس جيش من قبائل مراكش والحوز متوجهاً شمالاً نحو فاس. ظن بوحمارة أن ما يُحاك حوله يستهدفه، فعمد هو الآخر إلى التحالف مع الاستعمار، فمنح الفرنسيين حق استغلال مناجم منطقة الريف الأوسط، وعهد إلى الإسبان بمنجم الحديد في جبل ويكسان شمال البلاد. لكن هذا أشعل ضده انتفاضة الريف الأولى بقيادة الشريف محمد أمزيان، الذي طرد بوحمارة والإسبان من المنطقة. قرر وقتها بوحمارة أن يطلق محاولة أخيرة للاستيلاء على فاس، فعاد إلى تازة ومنها تحرك مع جيشه نحو العاصمة. لكن لسوء حظه صادف جيوش السلطان عبد الحفيظ المنتصرة على أخيه تدخل المدينة، فانهالت على جيش بوحمارة مدافعهم ففككت خطوطه وكانت هزيمته على أيديهم. واعتقل بوحمارة مع 400 من موظفيه، 400 من جنده وموظفيه واقتيدوا إلى فاس، لكن 160منهم فقط وصلوها أحياء، وهناك أُعدموا كلهم. وأعدم بوحمارة هو الآخر في 2 سبتمبر/أيلول 1909، وأطعمت جثته لأسود البلاط.

بوحمارة وفتوى العلماء

لم يكن العلماء بعيدين عن الأحداث، فقد أصدروا مجموعة من الفتاوى اعتبرت بوحمارة فتانا وخارجا عن السلطة الشرعية، وحسب ما ورد في كتاب «بوحمارة من الجهاد إلى التآمر»[1] كان موقف فقهاء مدينة فاس الرسمي وهي مقر السلطان الشرعي، واضحا، وفي منشور لعلماء المدينة اعتبروه ثائرا وفتانا خرج عن السلطان الشرعي. وهذه فكرة أساسية لأنها تخرج الصراع بين الرجلين عن إطاره العائلي الذي أراد بوحمارة أن يقحمه فيه. وقد خصصت مكافأة مالية لمن يقبض عليه، وكان هذا المنشور لا يعكس وجهة نظر السلطان مولاي عبد العزيز من بوحمارة وحركته فقط، بل يعكس كذلك موقف الفقهاء الموالين له، الذين اجتمعوا بجامع القروبين. غير أن هناك فريقا آخر من فقهاء مدينة فاس وعلمائها ساند حركة بوحمارة. فقد جاء في كتاب «إيليغ قديما وحديثا» للعلامة المختار السوسي ما نصه: “اغتر به حتى كبار علماء القرويين، فقد كان العلامة سيدي أحمد بن الخياط وتلميذه العلامة سيدي الفاطمي الشرادي عند السيد محمد بن العباس الجامعي في غرسة الشفشاوني بفاس بمناسبة حفلات شعبان ومعهما تلميذهما العلامة الخير الصالح سيدي بن الحاج إدريس بن محمد الجامعي وأبو حمارة على أبواب فاس فاستبشروا خيرا بقرب دخوله وأظهروا الفرح”.

عتبة كتاب محكيات الفتان

ورد في العتبة الذي قدم بها سعيد عاهد مؤلفه: “مع مطلع يوم الخميس 9 شتنبر 1909 الموافق للثالث والعشرين من شهر شعبان من عام 1327، تم إعدام الجيلالي بن عبد السلام اليوسفي الزرهوني، المشهور في مغرب مطلع القرن العشرين بكنية “بوحمارة”، وبلقب “الروكَي”.
“اضطر يومها السلطان مولاي عبد الحفيظ إلى إصدار أوامره المطاعة بإعدام “الفَتَّان” رميا بالرصاص في مشور بلاطه العامر بفاس، وهي التعليمات التي نفذتها على التو مجموعة من العبيد. لم يكن حينها أمام السلطان خيار آخر غير الأمر باستعمال البنادق، خاصة بعد رفض الأسود التي تم إيداع بوحمارة في قفصها المعروض في ساحة البلاط الشريف، التهام هذا الأخير وإزهاق روحه، مكتفية بمذاق لحم وشحم أحد ذراعيه فقط!

ولأن بوحمارة كان شخصية ملغزة، تعددت الروايات بالنسبة للطلقات النارية التي خلصت المخزن نهائيا من وجع الرأس الذي سببه له الفتّان طيلة سبع سنوات. هكذا، تقول رواية مغايرة، فالذي كلف بطي صفحة “القائم” نهائيا كان شخصية سامية في دواليب الدولة الحفيظي…، وسواء صدقت الرواية الأولى أو الثانية، فالمؤكد أن “القائم” ظل حبيس قفص في فاس، وأنه عُرض على الملإ طيلة أيام حتى يتأكد الجميع بأنه ليس مولاي امْحَمد الذي سبق لبوحمارة تقمص شخصيته والمطالبة بالعرش باسمه. بل إن مولاي عبد الحفيظـ حسب كل الروايات، سيأمر بإحراق الجثة لتستحيل رمادا بعد صب الغاز عليها، حتى يكف شبح صاحبها عن قض مضجعه، وحتى لا يستمر في منازعته حول عرش الإيالة الشريفة، بعد أن خاصم سلفه في الحكم مولاي عبد العزيز هو الآخر.

“وسواء أعدم الجيلالي بن عبد السلام اليوسفي الزرهوني برصاص بنادق عبيد مولاي عبد الحفيظ أو برصاصة من مسدس القائد مبارك السوسي أياما معدودة قبيل حلول خريف عام 1909، فإنه انتفض – في البدء – ضد مولاي عبد العزيز، وأعلن الثورة ضد المخزن العزيزي في خريف سنة 1902، زاعما عند انطلاق الشرارات الأولى لـ “فتنته” بأنه مولاي امْحمد صنو السلطان، والابن الأكبر للحسن الأول المتوفي في 1894؛ وأن الحاجب القوي باحماد هو من نحاه عن العرش لفائدة أخيه الأصغر، وأن له الأحقية شرعاً في خلافة والده، خاصة بعد تأكده “شخصيا” من “موالاة” مولاي عبد العزيز للكفار والنصارى، ومن إرادته استيراد عاداتهم وطبائعهم وسلوكاتهم وأنساق حكمهم إلى المغرب.
“وبينما كانت جموع المغاربة تتابع أصداء ما يقوم به الروكَي عبر الروايات الشفوية، أو عبر ما يردده “البرَّاحون”، أو ما يتسلل إلى علمهم من مضمون الإرساليات المخزنية حول “فتنة بوحمارة”، اكتشف الرأي العام الأوروبي وجود الرجل، وعلم ببعض أخباره عن طريق الجرائد الإسبانية والبريطانية والألمانية والفرنسية؛ ثم اهتم بالتفاصيل المحيطة بسيرته ومساره ومطالبه بشغف عبر ما نشرته الصحافة والمجلات الأوروبية، رغم ما اكتنف مقالاتها من تضارب وتناقضات، شغف لم يكن يعادله سوى حجم أطماع حكومات القارة العتيقة الرامية إلى احتلال المغرب. “وردت الإشارات الأولى إلى شق بوحمارة عصا طاعة السلطان مولاي عبد العزيز بقوة الحديد والنار في الصحافة الأوروبية ابتداء من نونبر 1902، لتستمر متابعة مغامراته إعلاميا إلى حين إعدامه، مثلما خصص له العديد من الكتاب الغربيين المعاصرين له، الذين ألفوا كتبا حول المغرب، صفحات أو فصولا كاملة ضمن مؤلفاتهم.
“ويجدر التنبيه إلى أن هذا الكتاب ليس بحثا تاريخيا أكاديميا، بل هو عبارة عن انتقاء وتجميع وترجمة لمقالات وكتابات أجنبية معاصرة لـ “بوحمارة” تحكي عنه من وجهة نظر أصحابها، وتصف لحظات فتنته، مع إضافة إضاءات مغربية حول “الفتّان” وملحق خاص بالصور والرسوم التشخيصية للفاعلين وللأحداث”.

ومن بين ملاحق المؤلف نص رسالة وجهها بوحمارة للقياد والشيوخ والأعيان، ومقتطف للمؤرخ الحسن بن الطيب بن اليماني بوعشرين (في أحوال الوقت وأخبار الثائر الفتان”، وكيف اعتبر أقارب بوحمارة أنه حي رغم إعدامه (عبد الرحمان بن زيدان) وتباين مواقف علماء المغرب حوله…
وكتب د. عياد أبلال في الغلاف الأخير للكتاب: “عمل سعيد عاهد المثقف، والكاتب والمترجم، يستحق أكثر من عناية واهتمام، خاصة في سياق ملء ثقوب تاريخ المغرب الحديث وتليين التوترات التي ما تزال تشكل طابو عند البعض، ومجالا للتوجس والخوف عند البعض الآخر، خاصة إذا ارتبط هذا التاريخ بالمخزن والمخزنة كأطر إيديولوجية لإنتاج المعرفة والسلطة السلطانية، أو كمنظومة ونسق براكسيسي لا ينفصل فيه السياسي عن الثقافي، الاجتماعي والاقتصادي. من هنا فاختيار عاهد لنصوص هذا الكتاب، ودقة واحترافية الترجمة، وترتيب المقالات وفق تصور ذكي، كلها مؤهلات جعلت الكتاب وثيقة تاريخية مهمة على أكثر من صعيد. فشكراً له على ما قدمه للمكتبة التاريخية لبلادنا، في أفق أن تأتي ترجمات أخرى لنفس المرحلة من الإسبانية والألمانية لنعرف طبيعة التداخل والتأثير الدولي على بلادنا على عهد الحماية وما قبلها.

رمزية الغلاف

على مستوى الغلاف الخارجي للكتاب: يتضمن صورتين تلخصان مسار تمرد شخصية “بوحمارة”، الصورة الأمامية تعبر عن طواف جنود السلطان مولاي عبد الحفيظ ببوحمارة في قفصه أسيرا، والصورة الخلفية تصور عرض بوحمارة لرؤوس جنود المخزن في أحد أبواب مدينة تازة، وبين الصورتين هناك مسار سبع سنوات من “تمرد” حمل مشروع مخزن جديد بديلا عن المخزن العزيزي (نسبة إلى السلطان المولى عبد العزيز)، وعكس بشكل جلي المرحلة العصيبة التي كان يمر بها المغرب مع تصاعد سطوة التغلغل الاستعماري الأوربي واهتزاز هيبة الدولة المغربية.

مضامين المؤَلَّف

احتوى الكتاب على مقدمة تحت عنوان “عتبة”، و29 نصا أجنبيا مترجما إلى العربية، إضافة إلى ملحقين: الأول يضم 4 نصوص تاريخية مغربية حول بوحمارة، والثاني ملحق خاص بالصور والرسوم.

فمقدمة العمل التي وسمها سعيد عاهد ب “عتبة”، يطرح فيها روايتين مختلفتين حول إعدام الجيلالي الزرهوني “بوحمارة”، ونبذة تاريخية مختصرة حول “التمرد”، كما يقدم السياق التاريخي لنصوص الكتاب والمرتبط باهتمام الرأي العام الأوربي بواقعة “الفتان” وهو ما ظهر من خلال ما كانت تنشره الصحافة الأوربية ابتداء من نونبر 1902 إلى حين إعدامه، كما خصص له العديد من الكتاب الغربيين المعاصرين صفحات أو فصولا كاملة ضمن مؤلفاتهم التي كتبت حول المغرب خلال تلك الفترة. ويفصح سعيد عاهد في “عتبته” عن أن المؤلف ليس بحثا تاريخيا أكاديميا بقدر ما هو تقديم باقة من النصوص الأجنبية المتعلقة بتمرد الجيلالي الزرهوني، ويعترف الكاتب في هوامش “عتبة” مؤلفه أنه قد سبق له نشر أجزاء مهمة من هذا العمل متسلسلة على صفحات جريدة الاتحاد الاشتراكي التي يعمل بها صحفيا، وقد تكون المتابعة التي حظيت بها من لدن القراء هي التي جعلته يتخذ قرار نشرها في كتاب بعد تطعيمها بنصوص أخرى.

يتضمن العمل 29 نصا أجنبيا تغطي الفترة الممتدة ما بين 23 نونبر 1902 و1921 من صحف ومجلات وكتب فرنسية مختلفة وكتاب إنجليزي واحد، بالإضافة إلى ثلاثة تقارير ووثائق رسمية وخمسة نصوص مصدرية. ويمكن تقسيم النصوص عبر مرحليتن: الأولى ما بين سنتي 1902 و1904 وتميزت بتتبع النصوص لتمرد بوحمارة بين امتداده الجغرافي وبداية التقلص والتقهقر. والثانية تمتد من سنة 1906 إلى 1909 سلطت خلالها النصوص الضوء على شخصية الروكي ومحيطه المباشر وكذا الموقف الفرنسي من حركته، انتهاء بأزمة المخزن الحفيظي وإعدام “الفتان” الجيلالي الزرهوني.

ويختم الكاتب عمله بملحقين: الأول يتضمن أربعة نصوص وهي: رسالة من بوحمارة للقياد والشيوخ والأولياء نقلها المؤلف عن كتاب “زكارة: قبيلة زناتية غير مسلمة بالمغرب” للمستكشف الكولونيالي الفرنسي في الجزائر أوغست مولييراس، ثم ثلاثة نصوص منتقاة لمؤرخين مغاربة هم: المؤرخ الحسن بن الطيب اليماني بوعشرين من كتابه “التنبيه المعرب عما عليه الآن حال المغرب”، والمؤرخ عبد الرحمان ابن زيدان في مؤلفه التاريخي “إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس”، والأخير الأستاذ عكاشة برحاب ونصه في الأصل منشور في “معلمة المغرب (الجزء الخامس)”. أما الملحق الثاني يضم 45 صورة ورسما تشخيصيا للفاعلين والأحداث المرتبطة ب “تمرد” الروكي.

خلاصة

قال سعيد عاهد خلال حفل التوقيع الذي نظم بالجديدة سنة 2014،[2] الذي حضره عدد من المثقفين والطلبة والشباب من أبناء المدينة، إن الكتاب هو عبارة عن سرد لجملة ما كتب عن شخصية شكلت لغزا حقيقيا لمعاصريه، خلال حقبة من تاريخ المغرب تميزت بالاضطرابات، التي استغلها المتمرد بوحمارة ليزيد من زرع الفتنة، حتى يتسنى له تنفيذ الانقلاب على السلطان، واستيلائه على الحكم.وتحدث عاهد عن ظروف نشر الكتاب، والجهد المبذول في إنجازه وترجمته، والأسباب التي جعلته يثير هذا التاريخ في شكل محكيات، ويثير هذه السيرة التي طبعت مخيلة المغاربة في زمن “موشوم بالخيبات”..
إن مؤلف “الفتان” الجيلالي بن عبد السلام اليوسفي الزرهوني”، المشهور بـ “الروكي بوحمارة”، وثيقة لفك لغز رجل حير المخزن طيلة سبع سنوات، هذا الملقب بالدعي، والفتان، والقائم، ومول الساعة، والمارق، والمنتفض… استغل ظروف الارتباك والاضطراب بفعل السيبة، في مغرب مطلع القرن العشرين، ليستخبر أحوال المخزن، حتى يتسنى له خلق الفتنة من خلال انتحاله المغرض لاسم مولاي محمد، ابن السلطان الحسن الأول، في أفق شرعنة مطالبته بالعرش بكل الوسائل المادية والرمزية، وادعاء أن السلطان عبد العزيز خارجا عن الدين، والتقاليد المغربية الأصيلة بالنظر إلى علاقاته الحميمية مع الروميين، وتجاهله لرعاياه. فهل كانت ثورته سببا في تسريع فرض الحماية على المغرب وإضعاف الدولة المركزية؟

ومهما يكن فإن المؤلف، يعد مرجعا لا غنى عنه للقارئ العادي الشغوف بتاريخ بلاده، وللباحث في التاريخ المعاصر لمغرب زمن ما قبل الحماية.

المراجع
[1] محمد صغير الخلوفي، بوحمارة من الجهاد إلى التآمر المغرب الشرقي والريف من 1900 إلى 1909 م.
[2] جريدة الصحراء مارس 2014 عدد 2375.