ظل الرهان الثقافي في الأمة على امتداد تاريخها أحد الخيارات، الأساسية في حسم المعارك الكبرى التي تواجهها، ومغالبة عوامل التخلف فيها، بل هو خيار جميع الأمم والحضارات، ويبرز هذا الرهان اليوم بشكل كبير في هذا الزمان المتعولم الذي يحاول إلغاء كل التمايزات والخصوصيات الثقافية للشعوب والأفراد، ويفرض مفاهيمه التسلطية والقهرية، فيؤسس لقيم متصادمة بين الحضارات بدل القيم المتصادفة –بتعبير الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن- القائمة على الحوار والسلم والتعاون والإقرار بحق الإختلاف والإستقلال في اتخاذ القرارات، فأطروحات العولمة متعددة الأبعاد ومختلفة الجوانب، لعل أهمها وأخطرها البعد الثقافي الذي تطرحه -كما يقول الأستاذ شبار- باعتبارها ثقافة في مواجهة ثقافات، وفكرا في مواجهة أفكار، ومعرفة في مواجهة معارف.

والكتاب الذي نقدمه للقارئ –لصاحبه الدكتور سعيد شبار ومن منشورات مركز دراسات المعرفة والحضارة- يأتي في سياق إمكانيات النظر في تأهيل فكر الأمة وثقافتها لبلوغ مستوى التحديات التي تطرحها ثقافة العولمة، وكذا البحث في أسباب الضعف التي أقعدتها عن الصمود،وأضعفت الدفاعات الخلفية والأمامية لها، وحالت دون المساهمة الفعالة في صناعة هذه التصورات والاختيارات. ويعترف الأستاذ في هذه الدراسة أنه ليس بصدد تقويم للعولمة، فهذه واجهة مفتوحة للنقاش والنقد المستمرين، لكن بصدد تقويم جوانب من الاختلالات الفكرية والثقافية عندنا إيمانا منه، بأن تقوية الذات لن يكون باستعارة النماذج المخصبة في الخارج، إنما يكون من داخل الهوية والخصوصية بكل قيمها ومقوماتها ومحدداتها المنهجية والمعرفية، مع الانفتاح الواعي على التجارب الإنسانية الأخرى (ص 3-4)، وهو المدخل الطبيعي الذي يقترحه الأستاذ سعيد شبار لأي تثاقفٍ ايجابي بين الثقافات بدلاً من أطروحات التبسيط والهيمنة والتقويض لعوامل التواصل المثمر بين الحضارات، مع شرط لازم لتحقيق هذا الوضع الطبيعي في ثقافتنا المعاصرة “الإصلاح والتجديد” والقدرة على استئناف النظر في كثير من الإشكالات التاريخية أو الراهنة، وتأصيلاً في الأصول المؤسسة التي تمنح القوة والبقاء والاستمرارية والعطاء، وانفتاح واستيعاب النسق وليس انسداده وانغلاقه كما تجلى في معظم التجارب التاريخية” (ص4).

والكتاب في شكله العام يحتوي على مقدمة وثلاثة فصول جاءت كلها متناغمة في موضوعها  ومنهجها.

الفصل الأول جاء تحت عنوان:الثقافة والعولمة قراءة في جدل المحلي والكوني.

أماالفصل الثاني فقد خُصِّصَ لمفهوم الإصلاح وتجديد الرؤية والمنهج لتجديد العلوم والتدين.

في حين ركز الفصل الثالث على: استئناف التجديد والبناء في العلوم دفعا لآفات الانفصال والتحيز وربطا بواقع وتطلعات الأمة.

وهي قضايا كانت وما تزال تحتل في تفكير وثقافة الأستاذ سعيد شبار مركز الأولوية في أي إقلاع مرتقب للأمة، وتؤثث كل كتاباته. إن أهمية الكتاب الذي نقدمه تكمن في عمقه المنهجي التحليلي البعيد عن الاختزال، الباحث عن البناء المثمر والمتفاعل مع الثقافات الأخرى، كما يستمد هذه الأهمية أيضاً من طبيعة وراهنية المفاهيم التي اختارها في تحليل ومناقشة قضايا الكتاب (الثقافة –الإصلاح- التحيز –فقه الواقع…) وكذا من المرجعية البنائية لهذه الإشكالات.

والأستاذ وهو يحلل هذه الإشكالات وينتقد العولمة، لا يخفي إيجابياتها المتعددة يقول: “لا نتردد في هذه المعالجة عن التنويه والتأكيد على ايجابيات كثيرة للعولمة،[حيث] نقلت البشرية من وضع إلى آخر، وفتحت آفاقا ومجالات لم تعهد ولم تسبق في تاريخها فضلا عن مجالات حقوقية وإنسانية ومتونا وليس هوامشا من الحريات” (ص6).

ويخلص الباحث في هذه الدراسة، ومن الاوراش – حسب تعبيره- التي عالجها إلى تقرير حقيقة كون التوقف عن إنتاج العلم والفكر والمعرفة وسائر المداخل المكونة للثقافة والمؤطرة للإنسان هو موت ووفاة حضارية للذات، وأن النماذج الماثلة أمام الإنسانية اليوم تحتاج إلى عمق نظر ومتوازن، والبحث عن ما يحقق إنسانية الإنسان وكينونته. إن الإجتهاد والإبداع والفاعلية والحركية في الفكر والسلوك هو ما ينبغي أن يقود حركة التصحيح للأعطاب الذاتية التي أصابت الأمة، وحركة التصحيح للنماذج القاهرة المتغلبة (ص219) عملية من شأنها أن تساهم في إعادة ترتيب الإشكالات الجوهرية للإنسان وَفق منطق جديد يحافظ على مسافة طبيعية بين المطلق والنسبي، بين التملك والكينونة. وهي رسالة التثاقف الكوني المنفتح المستوفي لشرائط الحوار الحضاري القائم على التعارف والتعاون.