مقدمة

قبل بروز الدولة المرابطية على مسرح الأحداث التاريخية في المغرب، ظهرت جماعة من الشيعة في منطقة سوس، أطلق عليهم الشيعة البَجَليون، وتمكنوا من تأسيس إمارة شيعية في المنطقة، وقد كان ظهورهم خلال النصف الثاني من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي. وتعتبر هذه الجماعة والإمارة السوسية غير السنية من أقل الجماعات  التي نالت الاهتمام من قبل الباحثين في تاريخ المغرب، ويظهر ذلك من خلال قلة المعلومات التي أوردتها المصادر التاريخية حولها، بحيث “لم ينالوا من اهتمام الباحثين سوى النزر القليل الذي لا يتجاوز الفقرة الواحدة في المصدر الواحد، وكان هذا القليل نفسه حافلا باختلاف الأقوال والروايات في المسائل التي لا بد منها لمعرفة تاريخ أية جماعة كانت”[1]، فالشهرستاني في كتاب “الملل والنحل” لم يذكر فرقة البجلية من بين فرق الشيعة التي ذكرها رغم أنه أشار إلى ذكر سعيد البجلي وهو يتحدث عن فرقة المغيرة الشيعية. وقد ظهر البجليون في منطقة سوس في فترة كانت تحت نفوذ الأدارسة، وكانت قاعدتهم الأساسية بتارودانت. وقد تمكنت الإمارة البجلية من الاستمرار في الوجود ما يزيد عن قرنين من الزمان.

أصول إسم “البجلية”

تعود أصول تسمية هذه الجماعة الشيعية إلى رجل تورده المصادر التاريخية تحت مسمى: “البجلي”، وسميت الجماعة ب”البجلية” أو “البجليين”. وتختلف المصادر التاريخية بشكل لافت حول النسب الأدنى ل”البجلي”. حيث تورده بعضها ب: علي بن محمد بن ورصند، وبعضها الآخر تحت إسم: الحسن ابن علي بن ورصند، ومصادر أخرى أوردته تحت إسم: محمد بن ورستد، وكذا علي بن عبد الله البجلي[2]. ورغم  هذا التباين في إيراد اسمه فإن المصادر التاريخية تجمع على أصله، وتؤكد أن ابن ورصند البجلي هذا، تعود أصوله إلى منطقة نفطة ببلاد الجريد في افريقية (تونس الحالية). ويبدو أن كلمة البجلي الواردة في إسمه تعود إلى انتماء قبلي، وهو رجل أمازيغي كما يدل إسمه على ذلك: “ورصند”، لكن انتسابه إلى القبيلة هو انتساب ولاء فقط، خصوصا أن القبيلة على الأرجح قبيلة “بجيلة” العربية، التي نزل قوم منها بافريقية[3].

وهناك رأي آخر حاول تفسير إسم “البجلي” باللجوء إلى الطبونوميا المحلية، حيث اعتبر هذا الرأي أن “البجلي لا يعدو أن يكون تحريفا ل كلمة “اليجلي” نسبة إلى بلدة إيجلي أو إيكَلي نواحي مدينة تارودانت الحالية، وهي المنطقة التي أظهر فيها ابن ورصند دعوته أول الأمر. أما كلمة “ورصند” فيعتبر صاحب هذا الرأي أنه في الأصل هو”ؤرسند” أي المنحدر (سْنْد) بقفصة في إفريقية، وهو ما ينسجم مع المصادر التي تذكر أنه من منطقة نفطة قسطيلية بتونس الحالية[4].

وقد كانت منطقة نفطة بافريقية التي ينحدر منها ابن ورصند معروفة بتشيعها منذ القرن الرابع الهجري على الأقل، أي منذ زمن الدولة العبيدية بإفريقية، وكانت مشهورة جدا بتشيعها، حتى أنه كان يطلق عليها إسم “الكوفة الصغرى”، بل وتذكر بعض المصادر التاريخية، أن ذلك يرجع إلى عهد الداعية الشيعي أبو سفيان المشرقي وزميله الحلواني الذي أرسلهما الإمام جعفر الصادق سنة 145ه/762م من أجل نشر الدعوة الشيعية في الشمال الإفريقي، وكان ذلك منتصف القرن الثاني الهجري[5].

هجرة البجلي إلى المغرب ومنطقة سوس

لا نتوفر على معلومات كثيرة عن ابن ورصند وبدايات حياته، فالمصادر التاريخية لم تبدأ الإهتمام به إلا بعد انتقاله إلى منطقة سوس في المغرب. ويبدو أن بن ورصند قد انتقل إلى سوس قبل بدايات القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي. فهجرته إلى المغرب آنذاك لم تكن مستغربة، بسبب وقوع أجزاء مهمة من البلد تحت حكم الأدارسة باعتبارهم من ولد الحسن بن علي بن أبي طالب، فهم بذلك يمثلون آل البيت في المنطقة، خصوصا وأن العقيدة التي دعا إليها كانت عقيدة شيعية حسنية، تحصر الإمامة في ولد الحسن بن علي بن أبي طالب دون سائر أهل البيت. وأيضا لصعوبة إعلان دعوته في افريقية وهي تحت حكم الأغالبة التابعين للسلطة العباسية في بغداد والمعادية للدولة الإدريسية في المغرب[6]. وقد اختار منطقة سوس لبعدها عن المراكز السياسية الكبرى في المغرب آنذاك، وضعف السلطة الإدريسية في المنطقة بعد وفاة إدريس الثاني وتقسيم الإمارة بين أبناءه، فكانت سوس من نصيب أحمد بن إدريس، الذي اتخد إكَلي قاعدة لحكمه. وقد أعلن ابن ورصند دعوته، على ما يبدو، في حدود منتصف القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي[7].

ومهما قيل عن مذهب الأدارسة، هل هم شيعة زيدية؟ أو سنة وجماعة؟، فإنه كان لهم دور مهم في التمهيد لظهور المذهب الشيعي في المغرب، بما فيه الشيعة البجلية، من خلال إشاعة ما يسمى بفضائل آل البيت التي جعلت المغاربة مستعدين لتقبل أية فكرة تقال عنهم[8].

مبادئ الدعوة البجلية

يعتبر حصر الإمامة في ولد الحسن بن علي دون ولد الحسين بن علي، أهم المبادئ التي شكلت العمود الفقري للعقيدة البجلية. وأول ما  بدأ به ابن ورصند دعوته أعلن ولاءه لأحمد ابن إدريس، وهو أحد أحفاد يحي ابن إدريس الأصغر، والذي كان على رأس إمارة بمنطقة درعة. كما قرر ابن ورصند لأتباعه عدم جواز أكل شيء من الثمار زبل أصله. وفي مرحلة تالية والى البجلية إدريس بن محمد بن جعفر الإدريسي، وهو من أحفاد عبد الله ابن إدريس الأصغر (إدريس الثاني) الذي كان حاكما على سوس[9]. وقد ذكر البكري أن ابن ورصند دعا أصحابه إلى سب الصحابة الذين لم يشايعوا علي، بما في ذلك أبو بكر وعمر وعثمان، وزاد لهم في الآذان بعد: “أشهد أن محمد رسول الله” ما نصه: “أشهد أن محمدا خير البشر”ن ثم بعد: ” حي على الفلاح” ما نصه: “حي على خير العمل، آل محمد خير البرية”، كما حلل لأصحابه الربا واعتبره بيعا من البيوع، يقول البكري: “وعن يمين بني ماغوس قبيل يقال لهم بنو لماس. وهم كلهم روافض، ويعرفون بالبجليين…. ودعاهم إلى سب الصحابة-رضوان الله عليهم- وأحل لهم المحرمات، وزعم أن الربا بيع من البيوع”[10]. كما كان البجليون يرفضون الصلاة على آذان المالكية في المنطقة، وكانوا يصلون صلاتهم الخاصة في المسجد الجامع حيث كانوا يرفضون الصلاة مع المالكية، وحول ذلك أورد ابن حوقل قوله: “ولهم بالبلد (المالكية والشيعة البجليون) مسجد جامع تصلي فيه الفرقتان فرادى عشر صلوات، إذا صلت فرقة تلتها الأخرى بعشرة أذانات وعشر إقامات”[11].

وقد استمرت هذه المجموعة والإمارة الشيعية إلى حدود منتصف القرن الخامس الهجري بعد القضاء عليها من طرف المرابطين، الذين زحفوا نحو سوس بين سنتي 448ه و449ه/1056م و1057م، خصوصا أن المنطقة التي يشغلها البجليون بتارودانت ونواحيها كانت هي الممر بين بلاد المرابطين بالجنوب وشمال المغرب. وقد تصدى لهم البجليون  بتارودانت وقاتلوهم، وفي الأخير هزمهم المرابطون ودخلوا المدينة، “وقتلوا بها من البجلية أعداد كبيرة، واستثنوا من رجع منهم إلى السنة، وأخذوا أموال من قتلوا منهم فجعلوها فيئا” فانتهى بذلك كل أثر من آثار البجلية بتارودانت وسوس بصفة عامة[12].

المراجع
[1] وداد القاضي، الشيعة البجلية في المغرب الأقصى، ضمن أشغال المؤتمر الأول لتاريخ المغرب العربي وحضارتهن الجزء1، منشورات مركز الدراسات والأبحاث الإقتصادية والإجتماعية - الجامعة التونسية، سلسلة الدراسات التاريخية-1-، 1979، ص 167.
[2] وداد القاضي، الشيعة البجلية في المغرب الأقصى، مرجع سابق، ص 170.
[3] وداد القاضي، الشيعة البجلية في المغرب الأقصى، مرجع سابق، ص 172.
[4] نوحي الوافي، الحياة المذهبية بالمغرب الأقصى الوسيط من خلال المصادر العربية، ضمن صورة الأمازيغ في الكتابات الوطنية والأجنبية، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، تنسيق علي بنطالب، ط1، 2020، ص 115-129.
[5] وداد القاضي، الشيعة البجلية في المغرب الأقصى، مرجع سابق، ص 173.
[6] وداد القاضي، الشيعة البجلية في المغرب الأقصى، مرجع سابق، ص 175-176.
[7] وداد القاضي، الشيعة البجلية في المغرب الأقصى، مرجع سابق، ص 180.
[8] الأمراني محمد، معلمة المغرب، ج 16، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، 2002، ص 5450.
[9] وداد القاضي، الشيعة البجلية في المغرب الأقصى، مرجع سابق، ص 182-184.
[10] البكري أبو عبيد الله، المسالك والممالك، الجزء الثاني، تحقيق جمال طلبة، منشورات دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2003، ص 347.
[11] ابي القاسم ن حوقل النصيبي، صورة الأرض، منشورات دار مكتبة الحياة للطباعة والنشر، بيروت، 1992، ص 90.
[12] وداد القاضي، الشيعة البجلية في المغرب الأقصى، مرجع سابق، ص 190.