من هو محمد عبد الجليل؟

ولد الطفل محمد عبد الجليل في مدينة فاس يوم 17 أبريل 1904 لأسرة مسلمة وغنية، ومن أصول شامية أندلسية، وهي أسرة عريقة في تقلد المناصب السامية داخل الجهاز المخزني المغربي[1]، فقد كان والده يشغل منصب نائب باشا مدينة فاس. تلقى تعليمه في مرحلة الطفولة في جامعة القرويين بفاس، حيث كان يحفظ القرآن الكريم. كما تابع دراسته في ثانوية فاس باللغتين العربية والفرنسية. ثم شد الرحال إلى مدينة الرباط لمتابعة دراسته في ثانوية كورو Gouraud ومنها نال شهادة الباكالوريا سنة 1925. وخلال دراسته الثانوية في الرباط أقام لفترة بمدرسة شار دو فوكو Charles de Foucauld  التابعة للآباء الفرانسيسكان والتي كانت مأوى لعدد من الطلبة الوافدين من جهات مختلفة من المغرب، وقد أقام فيها لمدة عام كامل، وخلالها تعرف لأول مرة على المسيحية. وبعد حصول محمد عبد الجليل على شهادة الباكالوريا بامتياز، مكنته الإقامة العامة الفرنسية بتوجيه وتدخل خاص من المقيم العام شخصيا المريشال ليوطي من منحة دراسية لما رآه فيه من النبوغ والتميز، والذي استقبله شخصيا يوم 29 يليوز 1925[2]. فسافر إلى باريس لتحضير الإجازة في اللغة العربية وآدابها في “المدرسة الوطنية للغات الشرقية والدراسات العليا”، وفي نفس الوقت انتسب إلى “المعهد الكاثوليكي” بباريس كأول طالب مسلم يتابع دراسته في كلية كنسية[3]. وفي مدينة باريس التي وصل إليها في شتنبر 1925، وبالإضافة إلى تخصصه في اللغة العربية وآدابها، فإنه اهتم بشكل كبير بالفلسفة ودراسة الأديان فتأثر الطالب محمد عبد الجليل بأفكار الفيلسوفين جاك ماريتن Jacques Maritain وموريس بلونديل Mourice Blondel، وتأثر يشكل خاص وكبير بالمستشرق لوي ماسينيون Louis Massignon ، والذي يعتبر الأب الروحي لمحمد عبد الجليل ومرشده إلى المسيحية، والذي تعرف عليه أول مرة سنة 1923. يشار إلى أنه وفي سن التاسعة من عمره، في الفترة بين سنة 1913-1914، رافق والديه إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج[4].

فترة التحول إلى الكاثوليكية

في فترة دراسته بباريس كان يسكن لدى أسرة Faguer الكاثوليكية ابتداء من سنة 1925. وفي سنة 1928 تمكن الفرانسيسكان من استمالة محمد عبد الجليل وجعله يرتد عن الإسلام ويعتنق الديانة المسيحية وينتمي إلى طائفة الآباء الفرانسيسكان، بعد مسار تحول روحي ابتدأ بشكل فعلي ابتداء من نهاية يناير 1927، فتم تعميده يوم 7 أبريل 1928 في كنيسة ثانوية الفرانسيسكان   Fontenay-sous-bois [5]، فأصبح إسمه جان (يوحنا) محمد عبد الجليل. وبعد سنوات قليلة أصبح راهبا سنة 1935، وفي نفس الفترة  بين 1931 و1935 واصل دراسته للاهوت بكلية الفرانسيسكان (Studium des Franciscains) قرب مدينة ليل الفرنسية، وناقش أطروحته للدكتوراه بجامعة السوربون (1930).

وقد خلف تنصر محمد عبد الجليل صدمة كبيرة وتذمرا عميقا لدى المسلمين المغاربة، خاصة في مدينة فاس مسقط رأسه ومقر إقامة أسرته العريقة والمعروفة بورع أفرادها وبتمسكها بالدين الإسلامي، حيث قاطعته أسرته، خصوصا من طرف والده الذي اعتبره ابتداء من تلك النقطة متوفيا، بل أقام له مراسيم العزاء[6]، وذلك باستثناء شقيقه عمر الذي استمر في التواصل معه ومرافقته في بعض الأوقات الصعبة من حياته. وابتداء من سنة 1936 تولى يوحنا محمد عبد الجليل مهمة التدريس في المعهد الكاثوليكي بباريس، وتكلف بتدريس الدين والفكر الإسلاميين واللغة العربية وآدابها،  وقد استمر في أداء مهمته التدريسية حتى عام 1964[7].

ورغم ارتداده عن الإسلام فقد عمل جان محمد عبد الجليل طيلة مساره في التدريس وعبر مختلف الوسائل من محاضرات وندوات وكتابات على بناء ومد جسور الحوار والتفاهم بين معتنقي الديانتين الإسلامية والمسيحية، وساعده على ذلك قدرته التواصلية الكبيرة بلغات متعددة كالعربية والفرنسية والألمانية والإسبانية والإنجليزية، كما أنه لم يسجل عليه هجوم من نوع ما ضد الإسلام والمسلمين. كما أنه احتفظ بعلاقات مقدرة مع عدد من الوطنيين المغاربة خاصة شقيقه عمر أحد الوطنيين المغاربة وزعماء حزب الإستقلال، ووزير للفلاحة وللتربية الوطنية في فترة الإستقلال. كما انه انحاز إلى مطالب المغاربة آنذاك من أجل الإصلاح ثم الاستقلال[8]. كما أنه أيضا التقى في غشت من سنة 1958 بولي العهد الأمير الحسن –الملك الحسن الثاني فيما بعد- على هامش الندوة المتوسطية بفلورانسا. ومن اللافت أيضا انحيازه إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته معبرا عن رفضه وتنديده الواضح والمبكر والعلني بقيام  “دولة إسرائيل” خلال إحدى محاضراته في 24 نونبر 1948[9].

زيارة  المغرب

وفي سنة 1961 ألمت به أزمة نفسية حادة جعلته يستنجد بأخيه عمر الموجود آنذاك في المغرب، فشد الرحال صحبة أخيه يوم 28 أبريل 1961 عائدا إلى المغرب بعد انقطاع دام ما يقرب أربعة عقود. فانتشرت آنذاك كثير من الأخبار في المغرب حوله؛ مدعية أن “الحاج محمد عبد الجليل” رجع إلى دينه الأصلي الإسلام كما كتبت جريدة “الإستقلال”[10]، وذهب بعضها الآخر إلى أنه قد يستوزر في الحكومة المغربية ليتكلف بشؤون التعليم نظرا لثقافته الواسعة وتجربته العميقة. وقد سبب له ذلك مزيدا من الاستياء، خصوصا أن ذلك ترافق مع ضغوط كبيرة تعرض لها من قبل “إخوانه” الفرنسيسكان الذين أحرجهم مغادرته لفرنسا وعودته إلى المغرب دون سابق إنذار ودون استئذان الطائفة. وبعد أسبوعين من حلوله بالمغرب غادره فجأة يوم 15 مايو عائدا إلى فرنسا، وطنه الثاني الذي أبى أبدا أن يحمل جنسيته[11].

وفي سنة 1964 تم تشخيص إصابته بالسرطان في لسانه، ورغم العلاج المكثف الذي خضع له، فإنه عانى كثيرا من الداء فاضطر إلى التوقف عن التدريس بالمعهد الكاثوليكي بباريس، كما قلص من دائرة أنشطته. وفي 24 نونبر 1979 وافته المنية في إحدى المستشفيات بضواحي باريس. وخلال الفترة التي تقاعد فيها عن التدريس بسبب المرض كان يشتغل كمستشار غير رسمي لبابا الفاتيكان في القضايا التي لها علاقة بالإسلام والمسلمين، وقد استقبله بابا الفتيكان بولس السادس يوم 14 مايو 1966.

وخلف الراهب محمد عبد الجليل وراءه إرثا فكريا مهما. فبالإضافة إلى عدد مقدر من المحاضرات والمقالات والرسائل، فقد ألف عددا من الكتب حول كان موضوعها جميعا تصحيح نظرة الغربيين للديانة الإسلامية ومحاولة إقامة الجسور بين الديانتين المسيحية والإسلامية، وقد حررها جميعا باللغة الفرنسية:

  • موجز تاريخ اللأدب العربي Brève Histoire de la Littérature Arabe (1943).
  • الجوانب الداخلية للإسلام Aspects intérieur de l’Islam (1949).
  • مريم والإسلام(1950)  Marie et l’Islam.
  • الإسلام ونحن L’Islam et Nous (1957).
المراجع
[1] محمد بن عبد الجليل، معلمة المغرب، ج17، منشورات دار الأمان، الرباط، 2014، 5882-5883.
[2]مجلة "زمان" التاريخية، https://zamane.ma/jean-mohammed-abd-el-jalil-le-chemin-de-croix/?fdx_switcher=true.
[3]BAIDA Jamaà et FEROLDI Vincent, Présence Chrétienne au Maroc XIXème-XXème siècles, Edition et Impression Bouregreg, Rabat, 2005, p62.
[4] بيضا جامع، معلمة المغرب، ج17، منشورات دار الأمان، الرباط، 2014، ص 5887-5888.
[5] أنظر الموقع الإلكتروني للفرانسيسكان: http://www.franciscains-paris.org/articles.php?lng=fr&pg=24 .
[6]BAIDA Jamaà et FEROLDI Vincent, Présence Chrétienne au Maroc XIXème-XXème siècles, Ibid, p63.
[7] Oissila Saaidia,De Mohamed à Jean-Mohamed : Abd el-Jalil ou l'itinéraire d'une conversion au catholicisme, p 17 : https://www.cairn.info/revue-histoire-monde-et-culturesreligieuses-2013-4-page-15.htm.
[8] بيضا جامع، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 5888.
[9]Oissila Saaidia,De Mohamed à Jean-Mohamed : Abd el-Jalil ou l'itinéraire d'une conversion au catholicisme, p 23 : https://www.cairn.info/revue-histoire-monde-et-culturesreligieuses-2013-4-page-15.htm.
[10] Oissila Saaidia,De Mohamed à Jean-Mohamed : Abd el-Jalil ou l'itinéraire d'une conversion au catholicisme, p22- 23 : https://www.cairn.info/revue-histoire-monde-et-culturesreligieuses-2013-4-page-15.htm.
[11] بيضا جامع، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 5888.