مقدمة

تشير المعطيات التاريخية إلى قدم الاستيطان بواحات درعة، إذ لعب موقعها الاستراتيجي، على مشارف الطريق التجارية الرابطة بين مراكش والسودان الغربي، دورا في استقطاب العديد من المجموعات البشرية المتنوعة الأصول والأعراق، بعضها يرجع أصوله إلى ما وراء الصحراء الإفريقية، والبعض الآخر إلى مناطق مختلفة من جهات المغرب. هذا التنوع في الأصول والأعراق ما تزال آثاره بادية إلى اليوم من خلال النسيج العام للسكان، وفي تعدد عادات السكان وتقاليدهم. وتكاد واحات درعة تنفرد من بين الواحات بالجنوب الشرقي، في الحفاظ على السمات الأساسية القديمة لمختلف الشرائح البشرية بهذه الجهات، كما أن تعاقب القرون وظروف التساكن والمجاورة التي تفرضها طبيعة نمط العيش بالواحات، لم تفلح في إذابة مظاهر خصوصية هذا التنوع الذي كان يزداد تجدرا مع مرور الزمن.

الحراطين وإشكالية الأصل والتسمية

الحرطاني مصطلح أمازيغي الأصل اشتق من لفظ “أحرطن[1]، وتعني الخلاسي الهجين، أما عن جذور وأصول كلمة “حرطاني” فيعسر الخوض فيها لما تعتمده من معايير ثقافية واجتماعية لها صلة بالمحيط الذي نشأت فيه. لكن ذلك لن يمعنا من تقديم ملاحظات أولية حوله.

فحسب محمد المختار السوسي تعني الحر الثاني أو الحر الطارئ[2]، أما البوزيدي فقد خلص إلى أن كلمة “حرطاني” هي تحريف لكلمة “إحرضان” التي تجمع على كلمة “إحراضنالأمازيغية[3]، التي تعني الأحمر المائل إلى السواد أو الخلاسي. في حين يعتقد مونيي أن الكلمة تعني “الحرَّاثين” الذين يحرثون الأرض ويُفَلِّحونها[4]. فيما يرى باحثون آخرون أن استعمال كلمة “حراطين” له بعد سوسيو-اقتصادي أكثر مما هو عرقي، فالحرطاني هو بستاني سخر من طرف العرب والأمازيغ[5].

غير أن تداول كلمة “أحرضان” أو الحرطاني يبقى محدودا، حيث تستعمل كلمات أخرى منها “الدراوي” أو “إقبلين“، بينما تبقى كلمة “إسوقين” الأكثر شيوعا في جل واحات درعة.

الأصول التاريخية للحراطين بدرعة

يعتبر هذا العنصر من المكونات البشرية الأصيلة التي استقرت في درعة، وهي الصفة التي كانت تطلق على الأحرار من الملونين الذين تميل بشرتهم نحو السواد. وتذكر بعض الدراسات التاريخية[6] أن الحراطين من السكان الأصليين والأقدمين ببلاد درعة، وأنهم  من أحفاد الكوشيين أو الإثيوبيين، – كان يطلق هذا الاسم في العصور القديمة على المجموعات البشرية السوداء التي كانت تنتشر بالأطراف الشمالية للصحراء الكبرى وبمناطق الواحات التي  تمتد جنوب جبال الأطلس من شرقا إلى وادي نون غربا- [7]، وقد امتزجوا ببعض الطارئين على المنطقة من البيض، فنتج عن هذا الامتزاج جيل جديد يجمع بين خصائص العنصريين، يسمى هذا العنصر الجديد “الخلاسي” ويعتبر من أهم العناصر البشرية التي استوطنت بلاد درعة على مر العصور، لا من حيث العدد فحسب وإنما أيضا من حيث الارتباط بالأرض وقدرته العالية على التكيف مع كل المستجدات التي تطرأ على المنطقة[8].

فيما تشير بعض الدراسات الأنتروبولوجية إلى الاعتقاد في كونهم ينحدرون من شعب الكَرامانت القديم أو من الجيتوليين المتجذرين في المنطقة منذ آلاف السنين، ومن الممكن أن يكون بعضهم يمثل آخر ما تبقى من العرق الإثيوبي القديم ذي البشرة السمراء، والذي يبدوا أنه الساكن الأول للمنطقة[9]. وفي بعض الأحيان يدمج تحت تلك التسمية السود القدامى المستقدمون من السودان وامتلكوا حريتهم فيما بعد[10].

وقد لاحظ عدد من الباحثين خصوصا جاك مونيي، وسطيفان كزيل، بالإعتماد على الدراسات التاريخية والأنتروبولوجية، التشابه الكبير بين الإثيوبيين الدرعيين القدامى، والحراطين  في الوقت الحاضر سواء من حيث المميزات العامة، ونمط العيش، والارتباط القوي بالأرض وتباين الأعراق والأصول، وما تزال هذه الفئة تحتفظ بمجمل هذه الخصائص، خاصة الملامح التي تَميز بها الأثيوبيون الدرعيون في الماضي، وهي نفسها التي تميز الحراطين عن غيرهم من المجموعات البشرية اليوم؛ إذ منهم ذو السحنة السمراء، والشعر الأجعد، والشفاه البارزة، ومنهم الأسود النحاسي ذو الشعر المتصوف والأنف الأفطس، ومنهم الأسود الداكن ذو الشعر الناعم والأنف الأقنى[11].

وعنهم يقول طيراس “يشكلون فعلا عرقا حقيقيا، إن لم يكن بالمعنى الأنتروبولوجي فعلى الأقل بالمعنى التاريخي للكلمة. إن رشاقة أبدانهم والملامح شبه الأسيوية لوجوههم، والسمرة المخضرة لجلودهم تميزهم عن الزنوج. وقد قيل عن جديتهم في العمل، وبراعتهم كبستانيين وتقنيين في السقي والبناء، وعن روحهم المُسالمة، ولربما لم يقل ما يكفي عن ذكائهم المتوقد وتكيفهم المرن[12]. ومع ذلك لم يسلم الحرطاني من النظرة الدونية، ومعاملته باحتقار وازدراء واستعلاء، واعتباره إنسانا ناقصا موسوما بأخبث الصفات من طيش وحمق وجهل واتساخ ونتانة وغدر وتجريح في الشهادة[13]. وهو ما جعلهم عُرضة للاستغلال لفترة طويلة انتهت تدريجيا في النصف الثاني من القرن العشرين، حيث عمل العنصر العطاوي والشرفاء والقبائل العربية على تجريد هذه الفئة من كل وسائل الإنتاج ما عدا قوة العمل، وسنَّت لهذا الغرض أعراف تمنع الحرطاني من امتلاك الأرض[14].

السيمات العامة للحراطين بواحات درعة

لم يكن الحراطين منغلقين على أنفسهم كما توحي بذلك بعض الدراسات الحديثة[15]، بل كانوا منفتحين على كل المؤثرات التي كانت تطرأ على المنطقة، كما كانت لهم قدرة قوية على احتواء بقايا قبائل الرحل، وجعلها تنسلخ تدريجيا عن ماضيها لتندمج كليا في مجتمع الواحة المستقر، بعدما تكون قد فقدت كل صلة لها بقبائلها الأصلية، وبالتالي تتحول بقوة التاريخ وسطوة المكان إلى قبائل مستقرة على غرار فئة الحراطين، وقد حدث هذا مع بقايا القبائل الزناتية في القرن 5ه/ 11م، التي تحولت بعد أفول عصبيتها إلى الاستقرار والارتباط بالأرض، وصارت تشكل ما عبر عنه الشريف الإدريسي خلال القرن السادس الهجري/ 12م بأخلاط البربر.

وقد لوحظ في العقود الأخيرة أن التمييز الذي كان مكرسا ضد فئة الحراطين لم يعد بتلك الحدة المعهودة؛ جراء التحولات الاجتماعية التي عرفتها المنطقة انطلاقا من مرحلة الإخضاع الفرنسي، ثم فترة الاستقلال التي جعلت هذه الفئة تفرض وجودها خاصة على المستوى الاقتصادي، ولاسيما استغلال مهارتها في ميدان الفلاحة والبناء في مختلف ربوع البلاد، وتحويلاتها المهمة إلى الواحة للرفع من مستوى عيش أسرها القارة بها، وتوسيع رقعة ممتلكاتها من الأراضي الزراعية، ثم جراء الهجرة خارج الوطن، واستثماراتها في قطاعات تجارية وصناعية وفلاحية، وبلوغ مناصب إدارية جراء استفادتها مثل غيرها من التمدرس؛ كل ذلك ساهم في خلخلة البنية الاجتماعية التقليدية، وفي تراجع أشكال التهميش والتمييز الذي كانت عرضة له أمدا طويلا.

المراجع
[1] معلمة المغرب، مادة حراطين، قاموس يحيط بالأعلام البشرية والحضرية للمغرب الأقصى، منشورات الجمعية المغربية لتأليف والترجمة والنشر مطابع سلا 1995م، ج 10، ص 3355-3353.
[2] محمد المختار السوسي ، المعسول، ج 5، مطبعة النجاح ، الدار البيضاء 1960. ص 192.
[3] أحمد البوزيدي " التاريخ الاجتماعي لدرعة : دراسة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية من خلال الوثائق المحلية"، آفاق متوسطية الدار البيضاء 1994م . ص 145.
[4] Meunié (DJ) , Le Maroc saharien des origines au 16éme siècle, Parise, 1982., p 326.
[5] عبد الكبير باهني، مادة "الحراطين"، معلمة المغرب، مرجع سابق، ج10، ص 3353.
[6] Camps (G), « Les recherches sur les origines des cultivateurs noir du sahara », R.O.M.M.T.3., 1970. PP. 35-36. - Meunié (D.J), Le Maroc saharien des origines au 16éme siècle, Parise, 1982.
[7] Meunié (D.J), Le Maroc saharien, T.2, op. cit, P. 160 -188.
[8] البوزيدي، مادة درعة، معلمة المغرب، مرجع سابق،ج 12. ص 3994 .
[9]Spillmann, Districts et tribus de la haute vallée du Dra, villes et tribus du Maroc (Tribus Berbères), T II, Paris, 1931, P 95-96.
[10] حسن أميلي، تازارين أيت عطا مسار واحة مروضة، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، 2017م، ص 133.
[11] البوزيدي، درعة بين التنظيمات القبلية و الحضور المخزني، مرجع سابق، ص 35.
[12] هنري طيراس، القصبات الأمازيغية بالأطلس والواحات؛ المباني الكبرى بالجنوب المغربي، ترجمة حسن أميلي، منشورات معهد الشارقة للتراث، الشارقة 2019م، الطبعة الأولى. ص 86.
[13] أميلي، تازارين أيت عطا، مرجع سابق، ص 135.
[14] امحمد احدى، أعراف الجنوب المغربي نموذج: عرف أيت عطا الرتب بوادي زيز، ط 2، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية- جامعة ابن زهر أكادير، 2012.
[15] Meunié (D.J), « Les Oasis des Lektawa et des M’hamid , Institutions traditionnelles des Drawa », Hesp, n°27 , 1947 , PP. 402-404 .